30 أكتوبر 2024
لبنان والنشيد ومارسيل: استسلمنا
لا يُستبعد أن يُحال الفنان مارسيل خليفة قريباً إلى المحاكمة بتهمة مستعارة من نظام البعث، عرّاب الأمن والسياسة في لبنان، "إثارة الوهن في نفسية الأمة"، لأنه رفض افتتاح حفله في بعلبك بالنشيد الوطني اللبناني، فالمستوى الذي وصل إليه الطور الفاشي في هذا البلد يسهّل تقديم الأضاحي على مذبح الإجماعات الكاذبة، وتقديس الرموز على حساب المعنى، والنشيد ليس سوى رمز الرموز، إلى جانب الراية والعُملة، في تشكل الهويات الوطنية، أكانت صلبة عميقة، أم منافقة كاذبة مثلما هي الحالة اللبنانية. لم يُسعف مارسيل خليفة ابتعاده الجسدي ــ السياسي عن هذا البلد سنين طويلة، لينجو من حفلة الهستيريا الشوفينية. كذلك لم يسعفه التهرب من قول موقف واضح من رئاسة ميشال عون ومن حزب الله وسلاحه ومن النظام السوري وأدواته اللبنانية (منذ شارك في وقفة رمزية يتيمة مناصرة للثورة السورية في وسط بيروت في أولى أيام الانتفاضة)، ولا أنقذته مواقفه الإنشائية الأدبية التي لا يُستشَف منها رأي واضح يسمّي الجريمة جريمة، لكي ينجو من لحظة تجمع الأعداء اللبنانيين جيشاً مرصوصاً ضد العنصر الأضعف في المجتمع، مَن لا طائفة تدعمه ولا جيشا إلكترونيا يناصره ولا لوبيات مصارف تضغط لحمايته، مثلما حصل ذات يوم في فضيحة محاكم "يا غيرة الدين" التي قاضته بتهمة ازدراء الأديان حين غنّى أنا يوسف يا أبي.
بطبيعة الحال، وجد خليفة عدداً من المدافعين عن حقه في اختيار شكل الاعتراض على كل شيء في هذا البلد، عبر رفضه عزف النشيد، لكن من دون أن يعني ذلك أن ميزان القوى بين المدافعين والشاتمين اقترب أو كاد يدنو من التعادل. تجنّدت وسائل إعلام وجيوش إلكترونية لم تنتظر أن يحركها قائد حملة، لنبش "التاريخ الشيوعي الملحد" للمغني اللبناني، ظناً منها أنها تهمة، واستفاق فنانو "العهد القوي" العوني طبعاَ، لمناصرة النشيد المسكين، ثم وجدت صحيفة حديثة الولادة في لبنان، الفرصة مناسبة لتطويب نفسها قائدة حصرية للحملة الوطنية ضد شيوعي سمح لنفسه بأن يخالف الإجماع الوطني الكاذب وأن ينتقد "المقدسات". وحسناً فعل بعض رواد التواصل الاجتماعي عندما رصدوا كيف أن حسابات تويتر وفيسبوك التي حرضت طائفياً ودموياً في حادثة أمنية شهدها لبنان الأسبوع الماضي وأدت إلى قتلى وجرحى (قبرشمون في قضاء عاليه)، هي نفسها التي قادت الحملة ضد مارسيل خليفة، وكأن الدعوة مفتوحة إلى الاقتتال الأهلي لكن بشرط أن يتم غناء النشيد الوطني خلال المعركة.
حادثة مارسيل خليفة تختصر الوضع اللبناني برمته. سرعة انهيار كل ما بقي في هذا البلد، تعجز عن رصدها اختراعات التكنولوجيا الحديثة. في العنصرية والفساد والطائفية والتبعية للخارج والإفقار والارتهان وغياب المواطنة وتضاؤل مساحات حرية التعبير وزوال ما كنا نتشدق به من ديمقراطية منقوصة من النظام السياسي وهيمنة سلاح حزب الله على الحياة السياسية والاجتماعية واحتضار البيئة ومأساة تحكُّم سياسيين مستواهم مُحرج على كل المستويات وانهيار مؤسسات الدولة لصالح الخصخصة والمصارف والتجار... كلها حاول خليفة بلغة أقرب إلى الصوفية الطوباوية الإشارة إليها في معرض شرحه لقراره استبدال النشيد الوطني بأغنية لبعلبك المدينة والمهرجان، الذي كان يوماً ما عريقاً، من دون أن يؤدي ذلك إلا إلى ارتفاع حدة الحملة ضده.
ربما لا يكون الاستسلام نقيصة. ربما آن أوانه في هذا البلد، فإن كانت الديمقراطية هي في أحد تعريفاتها حكم الغالبية ورضوخ الأقلية، فلا بد من الاعتراف بـ"أنهم"، هم، حراس التكاذب والوطنية الفارغة والمقدسات وجماعة الجينات الذهبية، الغالبية الساحقة حقاً، وبالتالي على الآخرين، الذين عجزوا بالحرب والسلم والثقافة والنضال والنقابات أن يقلبوا ميزان القوى لصالح احتمال بناء بلد مواطنة "طبيعي"، فيه الكثير من الحرية، حرية تحطيم المقدسات، عليهم ربما أن يعلنوا استسلامهم والمغادرة، إلا إذا كانت ديكتاتورية الإجماع في بلد حسن نصر الله وميشال عون وجبران باسيل بلغت مستوى من القوة ممنوع الاستسلام فيه ويعرّض صاحبه للسجن.
بطبيعة الحال، وجد خليفة عدداً من المدافعين عن حقه في اختيار شكل الاعتراض على كل شيء في هذا البلد، عبر رفضه عزف النشيد، لكن من دون أن يعني ذلك أن ميزان القوى بين المدافعين والشاتمين اقترب أو كاد يدنو من التعادل. تجنّدت وسائل إعلام وجيوش إلكترونية لم تنتظر أن يحركها قائد حملة، لنبش "التاريخ الشيوعي الملحد" للمغني اللبناني، ظناً منها أنها تهمة، واستفاق فنانو "العهد القوي" العوني طبعاَ، لمناصرة النشيد المسكين، ثم وجدت صحيفة حديثة الولادة في لبنان، الفرصة مناسبة لتطويب نفسها قائدة حصرية للحملة الوطنية ضد شيوعي سمح لنفسه بأن يخالف الإجماع الوطني الكاذب وأن ينتقد "المقدسات". وحسناً فعل بعض رواد التواصل الاجتماعي عندما رصدوا كيف أن حسابات تويتر وفيسبوك التي حرضت طائفياً ودموياً في حادثة أمنية شهدها لبنان الأسبوع الماضي وأدت إلى قتلى وجرحى (قبرشمون في قضاء عاليه)، هي نفسها التي قادت الحملة ضد مارسيل خليفة، وكأن الدعوة مفتوحة إلى الاقتتال الأهلي لكن بشرط أن يتم غناء النشيد الوطني خلال المعركة.
حادثة مارسيل خليفة تختصر الوضع اللبناني برمته. سرعة انهيار كل ما بقي في هذا البلد، تعجز عن رصدها اختراعات التكنولوجيا الحديثة. في العنصرية والفساد والطائفية والتبعية للخارج والإفقار والارتهان وغياب المواطنة وتضاؤل مساحات حرية التعبير وزوال ما كنا نتشدق به من ديمقراطية منقوصة من النظام السياسي وهيمنة سلاح حزب الله على الحياة السياسية والاجتماعية واحتضار البيئة ومأساة تحكُّم سياسيين مستواهم مُحرج على كل المستويات وانهيار مؤسسات الدولة لصالح الخصخصة والمصارف والتجار... كلها حاول خليفة بلغة أقرب إلى الصوفية الطوباوية الإشارة إليها في معرض شرحه لقراره استبدال النشيد الوطني بأغنية لبعلبك المدينة والمهرجان، الذي كان يوماً ما عريقاً، من دون أن يؤدي ذلك إلا إلى ارتفاع حدة الحملة ضده.
ربما لا يكون الاستسلام نقيصة. ربما آن أوانه في هذا البلد، فإن كانت الديمقراطية هي في أحد تعريفاتها حكم الغالبية ورضوخ الأقلية، فلا بد من الاعتراف بـ"أنهم"، هم، حراس التكاذب والوطنية الفارغة والمقدسات وجماعة الجينات الذهبية، الغالبية الساحقة حقاً، وبالتالي على الآخرين، الذين عجزوا بالحرب والسلم والثقافة والنضال والنقابات أن يقلبوا ميزان القوى لصالح احتمال بناء بلد مواطنة "طبيعي"، فيه الكثير من الحرية، حرية تحطيم المقدسات، عليهم ربما أن يعلنوا استسلامهم والمغادرة، إلا إذا كانت ديكتاتورية الإجماع في بلد حسن نصر الله وميشال عون وجبران باسيل بلغت مستوى من القوة ممنوع الاستسلام فيه ويعرّض صاحبه للسجن.