لبنان وعبث الإصلاح
ما عاد بالإمكان إعطاء أوصاف لحالة الانحطاط السياسي التي وصل إليها الوضع في لبنان بعد مشهد الصدام القضائي الحاصل حالياً على خلفية انفجار مرفأ بيروت قبل نحو عامين. صدام يترافق مع تسارع مخيف في وتيرة الانهيار الاقتصادي مع تجاوز سعر الدولار أكثر من ستين ألف ليرة في السوق السوداء، بينما لا يزال سعره الرسمي جامداً عند 1500 ليرة، أي أن السعر الحقيقي للدولار بات يوازي أكثر من 40 ضعفاً للسعر الذي تتعامل به الدولة حتى الآن.
هذا الوضع الاقتصادي، والذي يستفيد منه متنفذون في البلاد، لم يحرّك المسؤولين اللبنانيين لمحاولة اجتراح حلول إنقاذية، بناء على الكثير من التوصيات الدولية، والتي تربط المساعدات الاقتصادية بالإصلاح الداخلي، بل على العكس، ها هم المسؤولون اللبنانيون يدمّرون آخر ما تبقى من مؤسسات، من الممكن إطلاق عليها صفة "النزاهة"، إلى حد ما، إذ إنها لم تغرق في بحر الفساد الذي يعيش فيه لبنان.
إلى حد كبير، وقبل وقت قصير، كان ينظر إلى المؤسسة القضائية في لبنان، بأنها لم تلوث كلياً في الحسابات السياسية والفصائلية، رغم المحاصصات التي تعتري تعيين القضاة، مثل سائر الوظائف في هذه البلاد العجيبة. لكن مع اقتراب القضاء من رؤوس كبيرة في لبنان، من سياسيين وعسكريين ومتنفذين، بات تدميره واحداً من مهمات المسؤولين، لينضم إلى غيره من القطاعات المدمرة في البلاد. تدمير جاء من داخل القضاء نفسه، عبر إبطال القرارات التي أصدرها المحقق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار، وطلبه إلى التحقيق، وذلك بعد حملة شرسة تقدمها نواب ومسؤولون حاليون وسابقون استهدفت البيطار وقراراته.
الإجراءات الأخيرة في هذا الملف تشكل رسالة واضحة إلى الخارج بأن هذا البلد غير قابل للإصلاح، وبالتالي لا داعي لمد يد المساعدة إليه. رسالة حملها المسؤولون اللبنانيون المفترض أنهم قائمون على مساعي الإنقاذ. وهي تأتي بعد الكثير من الإشارات العربية والدولية بأن لا مجال لهبات مجانية من دون خطوات إصلاحية. ولعل آخر هذه الإشارات وجهها وزير المالية السعودي محمد الجدعان خلال مشاركته في منتدى دافوس قبل أيام، وقصد فيها لبنان ومصر على وجه التحديد. الجدعان أكد أن عهد المساعدات السعودية المجانية انتهى، قائلا "إننا اعتدنا تقديم منح ومساعدات مباشرة من دون شروط، ونحن نغير ذلك. نعمل مع مؤسسات متعددة الأطراف لنقول بالفعل إننا بحاجة إلى رؤية إصلاحات".
قبل هذا التصريح، كانت آمال المسؤولين اللبنانيين معلقة على دول الخليج عموماً، والسعودية خصوصاً، في محاولة انتشال البلاد من الانهيار. الكثير من المناشدات صدرت من رئاسة الجمهورية (قبل فراغها) ومن رئاستي الحكومة ومجلس النواب، لكنها لم تلق آذاناً صاغية. حتى الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، الذي دأب على مهاجمة دول الخليج ويعلن علانية ولاءه لإيران، خرج في خطابه الأخير ليطالب دول الخليج بمنح لبنان "100 أو 200 أو 300 مليار دولار". هكذا ببساطة، حتى أنه لم يطرح أي مقابل، ولم يسأل نفسه لماذا من الممكن أن تقدم هذه الدول على مثل هذه الخطوة، في وقت تعتبر غالبيتها أن لبنان واحد من مصادر تهديدها، تحديداً بسبب حزب الله نفسه، سواء لارتباطاته العسكرية في إيران وسطوته في الداخل اللبناني، أو لمساهمته بشكل أو بآخر في تصدير المخدرات إلى السعودية وغيرها من دول الخليج.
هناك إجماع لبناني إذن على أن الخلاص لا يمكن إلا بمساعدات، عربية بشكل أساسي، ومرتبطة بالإصلاحات، لكن المسؤولين اللبنانيين اختاروا غض النظر وتجاهل هذا الأمر، ربما لأنهم غير معنيين بالإنقاذ، فاللبناني اعتاد على التأقلم مع كل الظروف التي مر بها، من أزمات وحروب وانعدام الماء والكهرباء والغذاء، وهم يعولون على هذا التأقلم مجدداً.