مائة عام من الأبدية
من أين تُؤكَل هذه الكتفُ حتّى تَنطقَ، وتتّخذَ موقفاً بعد عامٍ من الإبادة، عام من الحرب، عام من الأبدية في عمر قضيّة لن تُطوى إلى أن تعود الأمور إلى نصابها، حتّى لو استغرق ذلك الأبدية؟ ... عامٌ من انتقال 50 ألف إنسانٍ إلى الأبديّة، وهو رقم هائل من الأبديّات لحياة طبيعيّة. عامٌ من السّقوط في تشرّدٍ يبدو أبدياً لملايين الغزّيين، الذين يطاردهم القتلةُ يميناً وشمالاً في شتات أبدي، رغم أنّه مرهون بزمن ما. لكن متى وكيف وأين سيكون المصير؟ ... لا يعرف الغزّيون أجوبةً لذلك، لذا يبلعون أيّامهم يوماً بيوم، لعلّ الجوع يَخْرَس، ولعلّ القصفَ يَخْرَس.
هو عامٌ فقط بميزان الأعوام العادية، لكنّه مائة عام إذا دكَّت فيه الصّواريخُ والقنابلُ البيوتَ بلا حساب ولا عقاب. مائة عام هي عمر مُحتمَل لرضيع قُتل في القصف، فكم مائة عام ضاعت مع الذين غُدِر بطفولتهم، مع العلم أنّهم كانوا سيعيشون فيها حياةً كاملةً، يغادرونها لأسبابٍ مختلفة، ليس بينها تحويلهم أشلاءً لا يمكن التعرّف إليها؟
وبعد مائةِ عام، وسّع القاتل أعوامه الجهنّمية إلى لبنان، وربّما سورية بعدها. لكنّ أنظمة المنطقة، التي تدسُّ رأسها في الرمل تُردّد مع البوصيري في بُردته: "يا لائمي في الهوى العذري مَعذرةً/ منّي إليك ولو أنصفتَ لمْ تلُمِ"، ليستمرّ الصّمت الجبان، و"عدم استفزاز" القاتل، الذي لن يمنعه ذلك من طرق أبواب من يشاء بحربه المسعورة، خاصّةً مع "تحييد" إيران التي يُهدِّدها الآن بالحرب، وهو ما ظنّت أنّها تجنّبته بخذلان المقاومة، لكن لا يحق لنا الحديث، فلا لومَ للصَّامت على الصّامت.
تحت أجنحة الصّمت، تنقل إسرائيل جنونها إلى أرض أخرى، لتكسب أنصاراً جدداً في الغرب. فحزب الله منظّمة إرهابية عنده، ولإسرائيل الحقّ في الدفاع عن نفسها ضدّ هجمات الحزب، حتّى لو كانت حركة حماس نفسها مُتَّهَمةً بذلك، لكن هناك فرقاً سيشرحونه بسعادة الآن. في الحالات كلّها، غزّة ولبنان (ومن سيأتي دوره) لا أكتاف تُؤكَل لأجلهم. فالمنطقة العربية صامتة صمتَ الأطرش لا صمتَ الأخرس. لكنّ لائم الصامتِ صامتٌ أيضاً، فمن أين تُؤكَل الكتف هذه حتّى تنطق؟
نريد أن نعذر من يمكن عذره، ولا نجد عذراً كافياً لهذا الهوان. ونحن نرى كيف تداعت وفزِعت أوروبا لمّا هاجمت روسيا أوكرانيا، وشعرت أنّها مُهدَّدةً، رغم أنّه شتّان بين أوكرانيا التي تعتبرها روسيا حديقةً خلفيةً لها، وأوروبا الغربية التي لا يقدر عليها العفاريت، في وضعها الحالي، وهو وضع قد يتغيّر في زمن لاحق، قد تكون فيه بلداننا في مرتبتها في العالم.
في انتظار ذلك، إسرائيل "فرّانٌ" قادرٌ على حومتنا جميعاً، بترسانة وليّة أمرها، ورفاقها، ستمحو من تريد، حتّى لو حفرت الأرض خلفه (حرفياً)، وستجد لها أعذاراً يُصدِّقها الغرب الحنون. أمّا نحن فإنّنا نتصرّف كالأيتام على موائد اللئام، نأمل في حكمة وضمير المُفترِين، لكن لا كرامةَ للخَذول في القوم.
خلال ذلك كلّه، تداعت مُسلّماتٌ وقامت أخرى. فبعدما أثبط "طوفان الأقصى" أسطورةَ الاستخبارات الإسرائيلية، حاولت هذه الأخيرة استعادة سمعتها باختراق حزب الله وإيران، مع العلم أنّها لم تفعل ذلك وحدها، بل بمساندة الاستخبارات الغربية. صحيح أنّ إسرائيل ليست بالقوة التي يظنّها بعضهم، لكنّها ليست بالضّعف الذي يراه المتفائلون الذين يعيشون في وهم اقتراب انهيار إسرائيل. وكذلك حزب الله ليس قوياً بالقدر الذي كان يُروَّج له، لكنّه ليس ضعيفاً بالقدر الذي يظنّه المتابعون للصّدمة التي أصابته.
لحزب الله طرائقه للنّجاة والبقاء، ولو في شكل سرايا منفصلة. ورغم خذلان داعميه، لكنّه (على الأقلّ) يملك هامشاً للمناورة. الخوف كلّه على الأنظمة العربية، ونحن في حِجرها، التي لا تملك لا الإرادةَ ولا الرّغبةَ، ولن تردّ الضّرب إلا بالاندساس في الرّمل تاركةً شعوبها تحت القصف. وما تفعله إسرائيل في دول الجوار، كفيل بإظهار ذلك. وسيكون الأمر كذلك للدول البعيدة، وخرافة "لو أنّنا قريبون من الجبهة ..." ستسقط. إلّا إذا نبتت معجزةٌ ما، ونرجو أن تفعل قريباً رجاءَ الأيتام يتماً أبدياً.