مشهد اختطف الانتخابات الأردنية
اختطف مشهد الاحتفالات التي وقعت غداة الانتخابات النيابية في الأردن (الأسبوع الفائت) الصورة الكاملة والاهتمام الشعبي والجدل على مواقع التواصل الاجتماعي، فلم تعد نتائج الانتخابات الحدث السياسي المهم، بل ما قام به الجمهور العريض في المحافظات من كسر للحظر، والخروج إلى الشوارع، وإقامة الاحتفالات بالمرشحين الفائزين، والأخطر إطلاق العيارات النارية بصورة مكثّفة وعلنية!
انتظرت الحكومة والمسؤولون جميعاً الملك، حتى غرّد على موقع "تويتر" منتقداً ما حدث، ومؤكّداً أنّ القانون يسود فوق الجميع، بلا استثناء، ثم قدّم وزير الداخلية استقالته، وخرج رئيس الوزراء ومدير الأمن وقائد الجيش يتحدّثون عما وقع من اختراق للحظر وتعدٍّ على هيبة الدولة والقانون، والتأكيد على أنّ ذلك لن يمرّ بلا محاسبة.
فعلاً، اتّخذت الإجراءات الأمنية المستعجلة، وتمّ رد الاعتبار لحظر التجول، واعتقال مئات ممن شاركوا في المظاهر المسلحة، واستعادت الدولة زمام المبادرة. لكن، كالعادة، متأخرة كثيراً بعد أن وقع الضرر، وتعزّزت الخطابات الجهوية والفئوية والجغرافية، وتراجعت سلطة الدولة الأخلاقية والقيم الوطنية الجامعة في نظر الشارع، بما وقع من أحداث.
المفارقة أنّ ذلك كلّه يأتي بعد الانتخابات التي كان من المفترض، كما في أي دولة، أن تشكّل نقطة تحوّل في تجديد النخب السياسية، وتعزيز شرعية اللعبة السياسية وإنعاش الحياة السياسية. لكن السياق الراهن للانتخابات التي انتظمت أخيرا ربما فعل العكس تماماً (باستثناء أنّ هنالك 100 تقريباً من الوجوه الجديدة من أصل 130 نائباً) فإنّ الأحزاب تراجعت بصورة كبيرة، والمرأة لم تنجح بالخروج من الكوتا النسوية (وتراجعت عن حصتها في الانتخابات السابقة)، والأهم أنّ ما حدث بعد الانتخابات طرح سؤالاً كبيراً على موضوع السلم المجتمعي ومسيرة الإصلاح السياسي.
ما حدث أكّد أنّنا ندفع ثمناً غالياً وباهظاً لتراجع مسيرة الإصلاح الديمقراطي وقدرة الدولة على إدماج جيل الشباب وتعزيز الهوية الوطنية الجامعة، فحصاد سنواتٍ من السياسات الاسترضائية وتعزيز الهويات الفرعية وتجاهل الحاجة إلى بناء إطار متين للعلاقة بين الدولة والمجتمع، فكانت النتيجة ليس فقط اختراقاتٍ علنيةً لحظر التجول، وما اعتبره بعضهم استعراضات قوى عسكرية في مناطق الأطراف. وما هو أدهى وأمرّ من ذلك أنّ الخطابات الجهوية والجغرافية والاجتماعية ظهرت بوضوح على السطح على مواقع التواصل الاجتماعي، تلك التي استحضرت الفجوة الكبيرة بين العاصمة عمّان، بخاصة عمّان الغربية، التي تبدو وكأنّها كوكبٌ معزولٌ عن باقي المدن، والمحافظات الأخرى في المملكة.
الطريف أنّ خطاب المظلومية يهيمن على الجميع؛ فأهل المحافظات يرون أنّهم مهمشون اقتصادياً، وأنّهم يعانون من البطالة وقلة الموارد وانعدام فرص العمل، بينما أهل عمّان يرون أنّ الحظر لم يطبق إلاّ عليهم، وأنّهم يعانون من تبعاته الاقتصادية. وخطاب المظلومية هذا يتجاوز الإطار الجغرافي إلى الهوياتي المجتمعي، ويذهب نحو المنحى السياسي، وهو ما ظهر بوضوح عندما قاطع أهل عمّان والزرقاء الانتخابات النيابية بدرجةٍ كبيرة، فكانت نسب المشاركة محدودة للغاية فيها، ما أثّر حتى على تركيبة مجلس النواب الديمغرافية والسياسية والثقافية.
ما يزال تيار رسمي وسياسي عريض يصرّ على أنّ المشكلة اقتصادية، وذلك صحيح، لكن لا يمكن، مرّة أخرى، الفصل بين السياسي والاقتصادي والثقافي والمجتمعي. وقد تبيّن كيف أنّ الأزمة الاقتصادية في المحافظات قلبت المعادلة السياسية بصورة كبيرة في البلاد، والآن تأتي بنتائج خطيرة، وما حدث بمثابة جرس إنذار للجميع.
مرّة أخرى، إذا كنّا غير قادرين اليوم على معالجة الأزمة الاقتصادية، ولن نكون على المدى القريب، فلا بد من حلول وحوارات سياسية وطنية، وتوسيع مساحة القرار السياسي، وأخطر ما تبدّت عنه أحداث ما بعد الانتخابات أنّ الأزمة السياسية في الأردن تكتسي لحماً هوياتياً مجتمعياً، وتعرّض السلم المجتمعي للخطر.