معضلة التصويت لليسار الفرنسي
الانتخابات الفرنسية، الرئاسية التي مضت، والنيابية المقبلة، تضع كثراً من المواطنين الناخبين والأجانب المهتمين، أمام معضلة أخلاقية ــ نفسية ــ سياسية مركّبة. الحيرة الخاصة بالاستحقاق الرئاسي انتهت، ففاز إيمانويل ماكرون بأصوات خليطٍ من رافضي خيار الفاشية ممثلاً بمارين لوبان، وهو ما كان متوقعاً، وقد سهّل توقع تلك النتيجة تصويت يساريين عديدين للرئيس اليميني من دون شعور بالذنب، على اعتبار أن "الجهاد الأكبر" يستوجب اختيار اليمين "العادي" لقطع الطريق أمام اليمين المتطرّف، فالسيئ أفضل من الأسوأ، وأمام قضيةٍ مصيريةٍ بهذه الخطورة، لا مجال لمغامرة التصويت الرمزي أو المقاطعة. أما في 12 و19 يونيو/ حزيران المقبل، أي في الانتخابات النيابية، فاليسار سيكون أقوى مما كان عليه مرشّحوه السبعة في الدورة الرئاسية الأولى. تحالفت التيارات الأربعة الكبرى التي تسمّي نفسها يسارية (فرنسا الأبية والحزب الشيوعي والبيئيون والاشتراكيون) في جبهة واحدة بهدف كسر اليمينية الماكرونية وتحقيق غالبية في البرلمان تفرض تعايشاً على الرئيس، ومن يدري، ربما إرغامه على تسمية جان لوك ميلانشون رئيساً للحكومة. التحالف وُصف بالتاريخي، بما أنه يحصل للمرة الأولى منذ عشرين عاماً. في حينها، كانت "جبهة اليسار" بقيادة الاشتراكي ليونيل جوسبان، أما اليوم فهي بزعامة ميلانشون. التسمية الأكثر رواجاً للرجل في بلده هي اليساري الراديكالي أو المتشدّد أو الشعبوي. لكن بالنسبة لكثيرين، فإن لقبه الأشهر سيبقى مهنّئ فلاديمير بوتين على "تنظيف حلب من الإرهابيين". هنا تكمن كل المعضلة.
نال اليسار الأوروبي والأميركي، والعالمي عموماً، ما يستحقه من هجاء، لكن موضوع المقال يفرض شيئاً من التكرار. كلمة يسار أصبحت في سياقات كثيرة مرادفة للشتيمة. التيار المهيمن في هذه العائلة فرض نفسه على المعنى، فصار يجسّد العديد من سمات قلة الأخلاق سياسياً وإنسانياً: هنا بعض العناوين: الانحياز ضد تحرر الشعوب التي تحكمها الديكتاتوريات، كأن نيل حريتها هو صفعة لمحاربي الإمبريالية الأميركية. الدفاع عن أكثر الأنظمة احتقاراً لحق البشر بالعيش أحراراً في أنظمة ديمقراطية. عقد الصداقات وشبك التحالفات مع زعماء كل "الإمبرياليات الحلال"، أي الروسية والإيرانية والصينية. الخلط بين الانفتاح والجوانب الإيجابية من العولمة من جهة، والنيوليبرالية القاتلة في الاقتصاد من جهة ثانية. هذه بعض آيات الكتاب المقدّس الخاص بالتيار اليساري المهيمن، وهي تعود إلى عطب تأسيسي عمره من عمر ولادة أنظمة سمّت نفسها يسارية، هو عطب عجز "اليسار الرسمي" عن الجمع بين الانحياز إلى العدالة الاجتماعية والتقدم والتوزيع العادل للثروات، وتأييد الديمقراطية من دون تلعثم والإكثار من "ولكن" الشَّرطية، وإرفاق الديمقراطية بحيل تفرغها من مضمونها من نوع "الحقيقية" و"الشعبية" وما شابهها من ترّهات سوفييتية وماوية وتروتسكية المصدر.
الكثير من قلة الأخلاق اليسارية تلك ينطبق على الفرد الأكبر من العائلة اليسارية الفرنسية التي ترغب بنيل غالبية في البرلمان، أي حزب ميلانشون، تُضاف إليها تنويعات من صنف التخطيط للخروج من الاتحاد الأوروبي يوماً ما. لكن في المقلب الآخر، برامج محلية اجتماعية ــ اقتصادية ــ بيئية يسارية طموحة وعادلة في الضرائب والقدرة الشرائية والبيئة وسِنّ التقاعد وتوسيع وعاء العدالة الاجتماعية عبر زيادة تحصيل الرسوم من الأثرياء والاهتمام بالقطاعات الإنتاجية وضبط الفقاعات المالية والعقارية، وقوننة محاربة الكراهية والعنصرية، ومحاربة مظاهر التطرف الآخذة في التمدّد في المجتمع. برامج ووعود انتخابية لا مجال إلا للتحمس لها، إلى أن ينطق ميلانشون في شؤون السياسة الخارجية، فيتسلل الغثيان من أسفل المعدة حتى أعلاها.
هل إلى هذه الدرجة يصعب أن يكون المرء يسارياً وديمقراطياً معاً؟ أن ينحاز تماماً إلى العدالة الاجتماعية والتقدم والمساواة والقيم الإنسانية الأممية، بقدر انحيازه إلى الديمقراطية والحريات الفردية والجماعية؟