هدم الديمقراطية في تونس أكثر وأكثر
بعد مرور تسعة أشهر على "الانقلاب الذاتي"، الذي بدأه الرئيس التونسي، قيس سعيّد، في 25 يوليو/ تموز الماضي، بتجميد عمل البرلمان وحلّ الحكومة، واستكمله باستهداف مجموعة من المؤسسات الدستورية والهيئات المستقلة، جديدها أخيراً الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات التي أنهى سعيّد بمرسومه رقم 22 استقلاليّتها والطبيعة الديمقراطية لنشوئها، وحوّلها إلى أداة أخرى من الأدوات التي يسيطر عليها، يبدو أنّ الأمور في تونس ذاهبة باتجاه "دكتاتورية دستورية" في ظلّ إصرار الرئيس سعيّد على الاستمرار في مشروعه الفوضوي القائم على تفكيك كلّ ما راكمته تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس من مؤسسات وهيئات أقامتها نخب وكفاءات خلال عشرية الانتقال الديمقراطي الذي فجرته "ثورة الياسمين".
منذ اليوم الأول لدخوله قصر قرطاج، أظهر سعيّد إصراراً على فرض رؤيته للنظام الدستوري والسياسي وتنفيذ خطته الهادفة إلى إعادة تشكيل هذا النظام بكامله، وفقاً لرؤيته المنفردة في محاولة للإمساك بكامل خيوط السلطة السياسية واستكمال السيطرة على الدولة التونسية وجميع مؤسساتها وهيئاتها من خلال "الانقلاب الذاتي" الذي بدأه بتجميد عمل البرلمان، ورفع الحصانات عن النواب، وحلّ حكومة هشام المشيشي، واستبدلها بحكومة ضعيفة يسيطر عليها، وتولّي مسؤولية النيابة العامة، وتعليق العمل بالدستور، والحكم من خلال المراسيم الرئاسية، وإجراء العديد من التعيينات في العديد من المؤسسات المدنية والعسكرية والأمنية الحساسة بالشكل الذي يعزّز سلطته وسيطرته على هذه المؤسسات، وحلّ هيئة مكافحة الفساد، والهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين، وفرض خريطة طريق سياسية تضمّنت استشارة وطنية إلكترونية يتبعها استفتاء شعبي وانتخابات برلمانية نهاية العام الجاري، ومن ثم حلّ البرلمان والهيئة الوطنية لمقاومة التعذيب والمجلس الأعلى للقضاء واستبدله بمجلس آخر مؤقت لا سند قانونياً ودستورياً له، سوى مراسيم مؤقتة يصدرها بنفسه، ومن ثم حلّ الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، وتعويضها بأخرى تخضع له مع حصانة خاصّة لأعضائها.
نتائج المسار الذي يحاول سعيّد فرضه بالتدريج لن تقف عند حدود فرض نظام سياسي ودستوري جديد كأمر واقع، بل سيتعدّاه إلى تغيير هيئة الدولة ومنظومة الحكم
وبالتالي، يرى مختصون ومهتمون بالشأن التونسي أنّ ما قام به سعيّد من إجراءات وممارسات متتابعة ومتناسقة منذ تسلّمه رئاسة تونس، وما سيقوم به في الفترة المقبلة، يدخل في صلب خطته الهادفة إلى تفكيك عُرى الديمقراطية الناشئة في تونس، وإعادة تشكيل المنظومة السياسية التونسية بكاملها، وفقاً لرؤيته المنفردة، كخطوة متقدّمة لترسيخ دكتاتورية يتحوّل فيها سعيّد إلى حاكم فرد يختصر في ذاته وإرادته الشعب والدولة والوطن، وما يعزّز هذه الرؤية قرار سعيّد الأخير بحلّ الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، وتعويضها بأخرى تخضع للرئيس، مع حصانةٍ خاصةٍ لأعضائها، الذي كشف طبيعة توجهات سعيّد لتزوير الإرادة الشعبية وإعادة إنتاج الحكم الفردي. فعديدون من هؤلاء المختصين والباحثين يرون أنّ الهدف الوحيد من هذا القرار وضع اليد على أيّة عملية انتخابية وطنية أو محلية مقبلة، خصوصاً أنّ تونس مقبلة خلال الأشهر القليلة المقبلة على استحقاقين مهمين تحت إشراف اللجنة العليا المستقلة للانتخابات، حسب خريطة الطريق التي فرضها سعيّد بعد انقلابه الذاتي، وهما الاستفتاء على الدستور في 25 يوليو/ تموز المقبل، أي بعد ثلاثة أشهر، والانتخابات النيابية الجديدة المقررة في 17 ديسمبر/ كانون الأول المقبل.
ويرى هؤلاء أنّ نتائج المسار الذي يحاول سعيد فرضه بالتدريج لن تقف عند حدود فرض نظام سياسي ودستوري جديد كأمر واقع، بل سيتعدّاه إلى تغيير هيئة الدولة ومنظومة الحكم ككل، فبعد استيلائه على كامل السلطة التنفيذية وتجميده السلطة التشريعية وتدجينه السلطة القضائية وسيطرته على السلطة الرقابية، لم يبقَ أمامه إلا حلّ هيئة الإعلام والأحزاب والجمعيات لتستكين له كلّ الأمور، وليكون وحده المتحكّم الفعلي في ما بقي قائماً من مؤسساتٍ لا ينازعه أحد في أي شيء، ولا ينتقده أحد في أيٍّ من تأويلاته الفريدة، وصولاً إلى تكريس الحكم الفردي التام، بعيداً عن أي شكل سياسي ديمقراطي.
قيس سعيّد، بسيطرته على الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، يكون قد دقّ آخر مسمار في نعش أهم تجارب الديمقراطية في العالم العربي
خلاصةً لما سبق، إن قيس سعيّد، بسيطرته على الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، التي كانت نتاجاً لنضال سياسي ومدني كبير لدمقرطة الدولة التونسية، ووضعها تحت جناحيه على الأقل أربع سنوات، يكون قد دقّ آخر مسمار في نعش أهم تجارب الديمقراطية في العالم العربي، لاستبدالها بدكتاتورية من خلال التفكيك الممنهج للمؤسسات الديمقراطية التمثيلية، وهدم كل الشرعيات القانونية والدستورية، باستثناء شرعيته هو، التي تجد مشروعيتها (حسب قوله) في الإرادة الشعبية التي يقول إنه يحوزها، على الرغم من التدهور الواضح في شعبيته الذي كشف عنه استطلاع للآراء أجرته مؤسسة "إنسايتس تي إن"، نشرته على "تويتر" في 22 فبراير/ شباط الماضي، والذي أكّد تراجعاً حادّاً في شعبية سعيّد التي وصلت إلى 23.2% فقط، وهو أدنى مستوى تصل إليه شعبية سعيّد منذ انتخابه سنة 2019، وذلك بالتزامن مع تصاعد الأزمتين السياسية والاقتصادية في البلاد، وتزايد نسبة التونسيين المعارضين أو غير الموافقين على قراراته وإجراءاته.