هذا العبث السوري
يبدو أن أطرافا كثيرة في ما تسمى المعارضة السورية لا تريد الاعتراف بأن التعاطي الدولي مع الملف اليوم لم يعد كما كان عليه في 2011، والاهتمام به من الفاعلين العالميين أصبح على هامش الهامش في ظل التسليم بالأمر الواقع، وبأن الملف أصبح في عهدة الروس والإيرانيين، وإلى حد ما الأتراك، ولا سيما في ما يخص المعارضة وفصائلها، وأن أي حديث دولي في الشأن السوري يجري عبر هذه القنوات حصراً، وهي التي تملك النفوذ عسكرياً وسياسياً على الواقع السوري الذي بات من شبه المسلّم به دولياً أنه في حالة "ستاتيكو" (الثبات)، إلى أن تتغير الظروف والمعطيات التي تسمح لطرف بالتغلب على الآخر.
رغم ذلك، نرى أن أطرافاً في المعارضة السورية لا تزال غارقةً في الخلافات الداخلية ومحاولات تغيير الهيئات التمثيلية القائمة، على الرغم من أن كل هذه الهيئات شكلية وهامشية، ولا قيمة لها في حسابات الربح والخسارة السورية، تماماً كما هو حال النظام السوري نفسه الذي بات مرتهناً للقرار الروسي أساساً، والإيراني بدرجة أقل. لكن يبدو أنها محاولةٌ لتأكيد الوجود، والإبقاء على مسار الدعم المادي متعدّد المصادر الذي تنهل منه المعارضة السورية.
أحدث حالات التلهي، أو العبث، محاولة أقطابٍ من المعارضة السورية العمل على تأسيس منصّة جديدة لوراثة "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية" الذي من المفترض أنه يمثل الثورة وأطيافها، وهو أمر غير حقيقي إطلاقاً. المنصّة هذه يمكن أن تُضاف إلى المنصات العديدة التي أُنشئت منذ بداية الثورة، وكانت مرتبطة عضوياً بأجندات الدول المهتمة بالشأن السوري، خصوصاً مع بداية الثورة، وما كان يمكن أن تحمله من تغيير. إلا أن الأمر الآن مختلف تماماً، وليس من شأن أي منصّة جديدة المساهمة في أي تغيير، بقدر ما يمكن أن تكون وسيلة للمناكفة الداخلية ومحاولة إيجاد صيغة تمثيلية تشبه ما كانت عليه منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها "الممثل الشرعي والوحيد للقضية الفلسطينية"، وبالتالي أخذها في عين الاعتبار في أي مساعٍ إلى حل سياسي لاحق للوضع السوري. ومع أن "الائتلاف" السوري قد حصل جزئياً على هذه الصفة التمثيلية، إلا أنه بقي غير مقنع، وخصوصاً أنه غير فاعل عسكرياً في الداخل السوري، وبالتالي فهو غير مؤثّر في مسار الوضع الميداني، ووجوده السياسي ليس إلا واجهة للدول الفاعلة في الملف السوري.
وعلى الرغم من أن هذا الأمر كان واضحاً منذ بداية تشكيل هذه الهيئات أو المنصّات السورية، وأن الحاجة إلى توحيد الصف لا بد أن يكون ضرورياً لإيصال الصوت السوري، إلا أن محاولاتٍ كثيرة حصلت وفشلت في هذا الأمر، نتيجة الحسابات الشخصية لمن كان من المفترض أن يكونوا معارضين حريصين على القضية السورية. الأمر نفسه يتكرّر اليوم بما يسمى "مؤتمر سوري – سوري لاستعادة السيادة والقرار"، المقرر أن يُعقد في أغسطس/آب المقبل في جنيف. إذ إن الأسماء التي تقف خلف هذا المؤتمر، والذي يهدف أن ينصّب نفسه بديلاً ل "الائتلاف"، سبق أن جُربت في أكثر من محفل معارض، ولم تنجح في الخروج من فكر المحاصصة السياسية والمالية، وهو، للأسف، حال غالبية أطياف المعارضة السورية.
لا شك في أن هناك حاجة سورية لهيئة تمثيلية حقيقية بديلة عن "الائتلاف"، والذي عملياً لم يعد يمثل إلا مصالح الدول التي ترعاه، لكن هذه الهيئة لا يمكن أن تكون عبر شخصياتٍ مرتهنةٍ أساساً لمصالح دول أخرى. الخروج من هذا العبث السوري يتطلب تكتلاً جديداً، يمكن أن يكون قوامه من السوريين في الشتات، والذين خبروا بعض أسس الحياة السياسية الديمقراطية بعد أعوامٍ من العيش في المغتربات الأوروبية والأميركية. لكن الأمر ليس سهلاً، وقد يكون طوباوياً، غير أنه يبقى الخيار الأمثل كي تكون لهذه الثورة السورية المحقّة قيامة.