08 نوفمبر 2024
سورية... بلاد الأشياء الأخيرة
تتوالى صور حلب المدمّرة في وسائل الإعلام، صور للحياة التي تلفظ أنفاسها في الجدران المُفرغة من سقوفها، بعد أن غادرت أجساد الأحياء حلب التي ركض فيها النّاجون وكأنّها القيامة، صور صادمة ومباشرة تمطر في الشّاشات. ونحن البعيدون والعاجزون لا نملك سوى أن نشيح بنظرنا عن وجه الصُّور اللانسانية للضّحايا، لنستطيع مواصلة يومياتنا.
لذا نكتب عنها، من دون أن ننجح في إخفاء حرجنا وخجلنا، لأنّنا حتى، ونحن نفعل ذلك، نستمر في القلق بشأن أشياء تافهة مقارنة مع همومهم التي ليست سوى البقاء على قيد الحياة. ولأنّنا نعرف أنّه لا جدوى من هذه الكتابة، لن يكون ما نكتبه كافيًا ليغيّر شيئًا ما، فهو، في أحسن الأحوال، تنفيس لنا. فيفضّل بعضنا الصّمت، بما أنّ الكلام في الحرب ضربٌ للّغة بعرض الحائط، خارج منطقة الجزاء. لكن، أمام صورة واحدة، فشلتُ في إشاحة بصري. أرغمتني على التّحديق فيها وقتاً طويلاً، ليست لأشلاء أو لدماء، بل لشخص حي بالكاد، تحمل ملامحه هول الحرب أكثر مما فعلت مئات صور القتلى. صورةٌ لرجل يجلس أمام عربة تحمل حطامًا بشريًا، زوجته العجوز المريضة، وربما الميّتة (قد تكون أمّه) يركع أمامها على الأرض، ويُلبسها حذاءها بوجه باكٍ.
صورة صارخة أشبه بلوحةٍ تمثّل بؤس الحرب، وبشاعة الإنسانية الحقودة. ذكّرتني العربة والبنايات المخلّعة الجوانب، والبؤس الذي يصرخ في المكان، برواية "في بلاد الأشياء الأخيرة" للأميركي بول أوستر. تدخل البطلة (اسمها آنّا) منطقةً منكوبة، تتساوى فيها الحياة مع الموت، حيث يمثّل بقاء الإنسان حيًا يوماً إضافياً إنجازًا كبيرًا. في هذه البلاد العمل الوحيد الذي يمكن أن توفّره لك الدولة هو "صائد الأشياء الأخيرة" الذي يتمثل في التجوّل في الشوارع، والأزقّة، بعربةٍ أشبه بعربات التّسوق، بحثًا عن أشياء تصلح للاستعمال، أو لإعادة التّدوير. إضافة إلى العمل جامع نفايات بشرية من الدّلاء التي يضعها أصحابها أمام الأبواب، لتُفرغ في الشّاحنة المخصّصة لحملها إلى محرقةٍ تزوّد المدينة بالطاقة المترتّبة عن حرق المخلّفات البشرية. وبعد وفاة صديقة عزيزة لآنّا اشتغلت معها في صيد الأشياء، تشتري فستانًا جميلاً وتلبسه للصّديقة الميّتة التي أصبحت كتلة عظام ناحلة، وتجرّها في عربتها إلى محرقة الأموات التي توّلد الطاقة أيضاً من أجساد الموتى. وتعود إلى حياتها المعلّقة بحبلٍ رفيع، لتحاول النّجاة أياماً أخرى.
حاولت الرّواية تصوير البؤس البشري، حين تأكل الحضارة نفسها، ويتحوّل الإنسان سلعة
رخيصة، وتصبح حياته غير ذات معنى للآخرين. ففي بلاد الأشياء الأخيرة، لن تكون الأجساد سوى أشياء قابلة للتّدوير، مثل أي شيء آخر، ولا يعود للموت حرمة أو وقع. وعندما تفقد الحياة معناها، يصبح الموت مجرّد تفصيل إضافي، مجرّد خطوة عمياء أخرى في تاريخ الإنسان.
هكذا شاء الأسد أن تكون بلاده، يتساوى فيها الموت مع الحياة، وهكذا شاءت القوى التي تخوض بقذارة هذه الحرب التي أصبح الأبرياء مجرد وقود يولّد الطّاقة لاستمرارها، مجرّد أهداف للأسلحة التي تسوّقها بغزارة قوىً تقتات من أرواح بشرية بريئة، ذنبها أنّها تحت رحمة مجانين وقتلة دمويون.
لا تذهب هذه الحرب، مثل التي عاشها العراق، بالأرواح، ولا تستهدف الأجساد فقط، بل تقتل الحضارة، تذبح أرواح الأمكنة، وتغتال التّراكم الحضاري الذي بنته الإنسانية، بحقدٍ ليس له مثيل، أعمى، لا يفرق بين الأبيض الأسود، في عمى أخلاقي يستهدف الفناء للكلّ الذي ليس جزءًا من منطقة بصره الضّيقة، لكلّ من ينظر من زاويةٍ لا تقع عليها بصيرته العمياء.
هذه الحرب التي تجعل ما ارتكبه المغول والفايكينغ، في حملاتهم، من تنكيل بالإنسانية شيئًا لا يذكر، بل مجرّد تمهيد للبشاعة التي نراها كلّ يوم، من دون نملك شيئًا لتغييرها. على الأقلّ الذين عاشوا في زمن المغول والفايكينغ وغيرهم من الغزّاة المتوحّشين لم يملكوا شاشات تنقُل لهم تفاصيل المجازر، وتحمل جثث الأطفال إلى غرف جلوسهم الدّافئة. وتضعهم في مواقف صعبة بين إخراس ضمائرهم والسّعي إلى فعل شيء قد يكون له وقع، أو يكون مجرّد طرق على الخزّان.
وعلى الرّغم من كل ما قرأنا عن مجازر ومذابح، عن حروب، وحملات إبادة، إلا أن ما تشهده
سورية يتفوّق عليها جميعًا، لأنّه يمتد في الزّمن والمكان، كأنّه في سباق مع الحياة، لنشر الموت. ويتجاوز الإنسان إلى الحضارة، إلى تجريد بلدٍ عريق بتاريخ مجيد، من رصيده الحضاري، وتلخيص وجوده كوعاء جغرافي يمكّن شخصًا أنانيًا ومستبدًا من البقاء في السّلطة، حتى أنّنا لا نقدر على التكهّن بكيفية انتهاء هذه المأساة، ولا على تصوّر كيفية عودة الحياة إلى هذا الدمار.
في فيلم وثائقي عن مجزرة سربرنيتشا التي ارتكبها الصّرب في حق جنود بوسنيين تم إغراؤهم بالاستسلام والعفو مهولٌ ما ترويه الأمّهات عن أبنائهن الذين فرض عليهم القتال لحماية قراهم، والاستسلام لحماية حيواتهم، فأعدموا ببشاعة، وما ترويه النّساء اللّواتي تعرّضن للاغتصاب خلال اقتحام الجنود الصّرب لبيوتهن. كيف أن حيواتهن انتهت في تلك الحرب، وكلّ ما يعشنه الآن مجرد وقت ضائع، لا يحمل أي طعم للحياة، بقدر ما هو انتظار للموت. هنّ بقايا نساء، يعشن الحياة، لا كنساء، بل ضحايا حرب انتهت على الأرض، لكن بعد أن قتلت الحياة فيهن. حرب انتهت بالنّسبة للآخرين، ومستمرّة فيهن.
تتكرّر اللّحظات التي عشنها داخلهن، الألم مستمر والعدوّ يجري في دمائهن، وأصبح جزءًا من أجسادهن التي لم تعد ملكهن، هي المدنّسة، المسكونة بدماء قتلة. فكيف يمكن لسورية أن تتجاوز هذه الحرب حتى نهايتها، وكيف يمكن أن تنتهي أولًا؟ وكم يلزم لتجاوز هذه الجرائم، إذا كان هناك احتمال واحد لذلك؟
لذا نكتب عنها، من دون أن ننجح في إخفاء حرجنا وخجلنا، لأنّنا حتى، ونحن نفعل ذلك، نستمر في القلق بشأن أشياء تافهة مقارنة مع همومهم التي ليست سوى البقاء على قيد الحياة. ولأنّنا نعرف أنّه لا جدوى من هذه الكتابة، لن يكون ما نكتبه كافيًا ليغيّر شيئًا ما، فهو، في أحسن الأحوال، تنفيس لنا. فيفضّل بعضنا الصّمت، بما أنّ الكلام في الحرب ضربٌ للّغة بعرض الحائط، خارج منطقة الجزاء. لكن، أمام صورة واحدة، فشلتُ في إشاحة بصري. أرغمتني على التّحديق فيها وقتاً طويلاً، ليست لأشلاء أو لدماء، بل لشخص حي بالكاد، تحمل ملامحه هول الحرب أكثر مما فعلت مئات صور القتلى. صورةٌ لرجل يجلس أمام عربة تحمل حطامًا بشريًا، زوجته العجوز المريضة، وربما الميّتة (قد تكون أمّه) يركع أمامها على الأرض، ويُلبسها حذاءها بوجه باكٍ.
صورة صارخة أشبه بلوحةٍ تمثّل بؤس الحرب، وبشاعة الإنسانية الحقودة. ذكّرتني العربة والبنايات المخلّعة الجوانب، والبؤس الذي يصرخ في المكان، برواية "في بلاد الأشياء الأخيرة" للأميركي بول أوستر. تدخل البطلة (اسمها آنّا) منطقةً منكوبة، تتساوى فيها الحياة مع الموت، حيث يمثّل بقاء الإنسان حيًا يوماً إضافياً إنجازًا كبيرًا. في هذه البلاد العمل الوحيد الذي يمكن أن توفّره لك الدولة هو "صائد الأشياء الأخيرة" الذي يتمثل في التجوّل في الشوارع، والأزقّة، بعربةٍ أشبه بعربات التّسوق، بحثًا عن أشياء تصلح للاستعمال، أو لإعادة التّدوير. إضافة إلى العمل جامع نفايات بشرية من الدّلاء التي يضعها أصحابها أمام الأبواب، لتُفرغ في الشّاحنة المخصّصة لحملها إلى محرقةٍ تزوّد المدينة بالطاقة المترتّبة عن حرق المخلّفات البشرية. وبعد وفاة صديقة عزيزة لآنّا اشتغلت معها في صيد الأشياء، تشتري فستانًا جميلاً وتلبسه للصّديقة الميّتة التي أصبحت كتلة عظام ناحلة، وتجرّها في عربتها إلى محرقة الأموات التي توّلد الطاقة أيضاً من أجساد الموتى. وتعود إلى حياتها المعلّقة بحبلٍ رفيع، لتحاول النّجاة أياماً أخرى.
حاولت الرّواية تصوير البؤس البشري، حين تأكل الحضارة نفسها، ويتحوّل الإنسان سلعة
هكذا شاء الأسد أن تكون بلاده، يتساوى فيها الموت مع الحياة، وهكذا شاءت القوى التي تخوض بقذارة هذه الحرب التي أصبح الأبرياء مجرد وقود يولّد الطّاقة لاستمرارها، مجرّد أهداف للأسلحة التي تسوّقها بغزارة قوىً تقتات من أرواح بشرية بريئة، ذنبها أنّها تحت رحمة مجانين وقتلة دمويون.
لا تذهب هذه الحرب، مثل التي عاشها العراق، بالأرواح، ولا تستهدف الأجساد فقط، بل تقتل الحضارة، تذبح أرواح الأمكنة، وتغتال التّراكم الحضاري الذي بنته الإنسانية، بحقدٍ ليس له مثيل، أعمى، لا يفرق بين الأبيض الأسود، في عمى أخلاقي يستهدف الفناء للكلّ الذي ليس جزءًا من منطقة بصره الضّيقة، لكلّ من ينظر من زاويةٍ لا تقع عليها بصيرته العمياء.
هذه الحرب التي تجعل ما ارتكبه المغول والفايكينغ، في حملاتهم، من تنكيل بالإنسانية شيئًا لا يذكر، بل مجرّد تمهيد للبشاعة التي نراها كلّ يوم، من دون نملك شيئًا لتغييرها. على الأقلّ الذين عاشوا في زمن المغول والفايكينغ وغيرهم من الغزّاة المتوحّشين لم يملكوا شاشات تنقُل لهم تفاصيل المجازر، وتحمل جثث الأطفال إلى غرف جلوسهم الدّافئة. وتضعهم في مواقف صعبة بين إخراس ضمائرهم والسّعي إلى فعل شيء قد يكون له وقع، أو يكون مجرّد طرق على الخزّان.
وعلى الرّغم من كل ما قرأنا عن مجازر ومذابح، عن حروب، وحملات إبادة، إلا أن ما تشهده
في فيلم وثائقي عن مجزرة سربرنيتشا التي ارتكبها الصّرب في حق جنود بوسنيين تم إغراؤهم بالاستسلام والعفو مهولٌ ما ترويه الأمّهات عن أبنائهن الذين فرض عليهم القتال لحماية قراهم، والاستسلام لحماية حيواتهم، فأعدموا ببشاعة، وما ترويه النّساء اللّواتي تعرّضن للاغتصاب خلال اقتحام الجنود الصّرب لبيوتهن. كيف أن حيواتهن انتهت في تلك الحرب، وكلّ ما يعشنه الآن مجرد وقت ضائع، لا يحمل أي طعم للحياة، بقدر ما هو انتظار للموت. هنّ بقايا نساء، يعشن الحياة، لا كنساء، بل ضحايا حرب انتهت على الأرض، لكن بعد أن قتلت الحياة فيهن. حرب انتهت بالنّسبة للآخرين، ومستمرّة فيهن.
تتكرّر اللّحظات التي عشنها داخلهن، الألم مستمر والعدوّ يجري في دمائهن، وأصبح جزءًا من أجسادهن التي لم تعد ملكهن، هي المدنّسة، المسكونة بدماء قتلة. فكيف يمكن لسورية أن تتجاوز هذه الحرب حتى نهايتها، وكيف يمكن أن تنتهي أولًا؟ وكم يلزم لتجاوز هذه الجرائم، إذا كان هناك احتمال واحد لذلك؟
مقالات أخرى
01 نوفمبر 2024
25 أكتوبر 2024
18 أكتوبر 2024