09 نوفمبر 2024
الدوحة تحلّق رويداً
بشير البكر
بشير البكر كاتب وشاعر سوري من أسرة "العربي الجديد" ورئيس تحرير سابق
بعد غيابٍ عن الدوحة استمر أكثر من عام وجدتُها مختلفةً عن آخر زيارة لها. ثمّة جديد في المدينة التي انتقلت، في العقود الثلاثة الأخيرة، من واقع عمراني عادي إلى طور الحداثة وفق إيقاع العصر.
لم يعتمد هذا الانتقال على سياسة الصدمة والإبهار، بقدر ما قام على قواعد تراعي البيئة المحلية ومتطلبات التقدم، وهو ما صنع عبر العصور شخصية المدينة العربية التي راعى مهندسوها الأوائل ثقافة أهل المكان، بكل ما يتشكل به من رموز وعناصر وإحداثيات وعلامات إنسانية.
من يتأمل الدوحة، منذ لحظة دخول المطار الجديد (مطار الشيخ حمد)، وما يحيط به، يقف عند حقيقتين أساسيتين. الأولى أن هذه المدينة تنمو ببطء، مثل كائن حي يريد أن يعيش مراحل ولحظات عمره بعمق شديد، ويتجنب حرق المراحل. والثانية أن هذه المدينة ليست في تنافسٍ مع أحد، ولا تطمح إلى السباق مع مدن أخرى في المنطقة أو خارجها. وهذا يعكس، إلى حد كبير، أن كل جديد في الدوحة خاص بها، وليس من باب البناء على سياق عمران يجتاح بعض دول المنطقة قائم على حساباتٍ تجاريةٍ وسياساتٍ عمرانيةٍ تتسم بالإبهار، الذي يصل، في بعض المدن، إلى حد تشويه الفضاء وتدمير البيئة المحلية التي تعد عنصر القوة الأساسي لأي مدنيةٍ وعمرانٍ وأصالة، وهذا ما امتازت به المدينة العربية منذ الكوفة، مرورا بالمدن والحواضر العربية التاريخية، مثل بغداد وحلب ودمشق وبيروت والقاهرة وتونس وفاس.
في الطريق من مطار حمد الدولي إلى عمق المدينة، تطالع الزائر أعمد إنارة تزيينية ذات طابع حروفي تشكيلي، يحيل فورا إلى التفكير في الهوية العربية الإسلامية للمكان. زخرفة مقصودة، تشي أن من يقف وراء هذه المبادرة أراد من هذا الضوء أن يفتح العين على ما يمثله الإسلام والعروبة من دليلٍ وحصانةٍ ثقافيةٍ وإنسانيةٍ للناس الذين يعمرون هذا البيت الواسع، ويأخذنا في التفكير بعيدا في أن التنوير، حين يكون قائما على أساسٍ مدروسٍ، يقود، بالضرورة، إلى نمطٍ من العمران الذي يمتلئ بشخصية المكان القوية التي أراد بعضهم طمسها، بقصدٍ أو من دون قصد، من خلال بناء مدن هجينة في الجوار، لا تراعي تاريخ العرب وتراثهم، وهي قائمةٌ على نظرةٍ تجاريةٍ بحتة، تلهث وراء الربح المادي، وفهم مغلوط ومشوّه لقيمة العمارة ودورها الخطير في بناء الإنسان. فنحن العرب، حين نزور بغداد أو حلب، نلمس فيها كل المدنية العربية. ومن هنا يحاول المحتلون حاليا تهشيم أصالة العراق والشام، من أجل ضرب الشخصية العربية التي أبدعت وبنت حضارة متميزة لها خصوصيتها، لم تمنعها من التواصل على نحو مدروس مع ماضيها، ولم تنقطع عنه أو تنكره من خلال انفتاحها أو تعايشها وتفاعلها مع المحيط، وما جاء من الخارج عبر عصور تاريخية مختلفة.
الدوحة ليست مدينة مغلقة الأبواب، وليست فقاعة إسمنتية في الصحراء، بل تعطي انطباعا معاكسا لمن يتأمل كيف تشقّ شارعا، أو تبني جامعةً جديدة وفريدةً كمعهد الدوحة للدراسات العليا، أو مستشفى أو مكتبة أو متحفا، كمتحف الفن الإسلامي الذي يشكل فضاءً لا مثيل له في العالم، يستقبل، منذ عدة أعوام، التشكيل الفني الجديد، العربي والعالمي الذي يصل أحيانا إلى حد التجريب المفتوح، في وقتٍ يدأب فيه على تكوين ذخيرة مقتنيات فنية عربية إسلامية، تضاهي متاحف عالمية عريقة، مثل اللوفر الذي بات يمتلك جناحا خاصا بالفن الإسلامي منذ عدة سنوات فقط.
كل ما في الدوحة حميم، من طريق النخلة حارسة المكان على ساحل البحر حتى المطر الذي هطل غزيرا خلال شهر فبراير/شباط، وكأنه جاء كي يمكث عميقا في هذه الأرض الطيبة.
من يتأمل الدوحة، منذ لحظة دخول المطار الجديد (مطار الشيخ حمد)، وما يحيط به، يقف عند حقيقتين أساسيتين. الأولى أن هذه المدينة تنمو ببطء، مثل كائن حي يريد أن يعيش مراحل ولحظات عمره بعمق شديد، ويتجنب حرق المراحل. والثانية أن هذه المدينة ليست في تنافسٍ مع أحد، ولا تطمح إلى السباق مع مدن أخرى في المنطقة أو خارجها. وهذا يعكس، إلى حد كبير، أن كل جديد في الدوحة خاص بها، وليس من باب البناء على سياق عمران يجتاح بعض دول المنطقة قائم على حساباتٍ تجاريةٍ وسياساتٍ عمرانيةٍ تتسم بالإبهار، الذي يصل، في بعض المدن، إلى حد تشويه الفضاء وتدمير البيئة المحلية التي تعد عنصر القوة الأساسي لأي مدنيةٍ وعمرانٍ وأصالة، وهذا ما امتازت به المدينة العربية منذ الكوفة، مرورا بالمدن والحواضر العربية التاريخية، مثل بغداد وحلب ودمشق وبيروت والقاهرة وتونس وفاس.
في الطريق من مطار حمد الدولي إلى عمق المدينة، تطالع الزائر أعمد إنارة تزيينية ذات طابع حروفي تشكيلي، يحيل فورا إلى التفكير في الهوية العربية الإسلامية للمكان. زخرفة مقصودة، تشي أن من يقف وراء هذه المبادرة أراد من هذا الضوء أن يفتح العين على ما يمثله الإسلام والعروبة من دليلٍ وحصانةٍ ثقافيةٍ وإنسانيةٍ للناس الذين يعمرون هذا البيت الواسع، ويأخذنا في التفكير بعيدا في أن التنوير، حين يكون قائما على أساسٍ مدروسٍ، يقود، بالضرورة، إلى نمطٍ من العمران الذي يمتلئ بشخصية المكان القوية التي أراد بعضهم طمسها، بقصدٍ أو من دون قصد، من خلال بناء مدن هجينة في الجوار، لا تراعي تاريخ العرب وتراثهم، وهي قائمةٌ على نظرةٍ تجاريةٍ بحتة، تلهث وراء الربح المادي، وفهم مغلوط ومشوّه لقيمة العمارة ودورها الخطير في بناء الإنسان. فنحن العرب، حين نزور بغداد أو حلب، نلمس فيها كل المدنية العربية. ومن هنا يحاول المحتلون حاليا تهشيم أصالة العراق والشام، من أجل ضرب الشخصية العربية التي أبدعت وبنت حضارة متميزة لها خصوصيتها، لم تمنعها من التواصل على نحو مدروس مع ماضيها، ولم تنقطع عنه أو تنكره من خلال انفتاحها أو تعايشها وتفاعلها مع المحيط، وما جاء من الخارج عبر عصور تاريخية مختلفة.
الدوحة ليست مدينة مغلقة الأبواب، وليست فقاعة إسمنتية في الصحراء، بل تعطي انطباعا معاكسا لمن يتأمل كيف تشقّ شارعا، أو تبني جامعةً جديدة وفريدةً كمعهد الدوحة للدراسات العليا، أو مستشفى أو مكتبة أو متحفا، كمتحف الفن الإسلامي الذي يشكل فضاءً لا مثيل له في العالم، يستقبل، منذ عدة أعوام، التشكيل الفني الجديد، العربي والعالمي الذي يصل أحيانا إلى حد التجريب المفتوح، في وقتٍ يدأب فيه على تكوين ذخيرة مقتنيات فنية عربية إسلامية، تضاهي متاحف عالمية عريقة، مثل اللوفر الذي بات يمتلك جناحا خاصا بالفن الإسلامي منذ عدة سنوات فقط.
كل ما في الدوحة حميم، من طريق النخلة حارسة المكان على ساحل البحر حتى المطر الذي هطل غزيرا خلال شهر فبراير/شباط، وكأنه جاء كي يمكث عميقا في هذه الأرض الطيبة.
دلالات
بشير البكر
بشير البكر كاتب وشاعر سوري من أسرة "العربي الجديد" ورئيس تحرير سابق
بشير البكر
مقالات أخرى
02 نوفمبر 2024
26 أكتوبر 2024
19 أكتوبر 2024