07 اغسطس 2024
أوهام سلاح المعونة الأميركية لمصر
صدّق الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في شهر مارس/ آذار الماضي، على أقل مساعدات تقدمها الولايات المتحدة لمصر سنويا منذ عام 1979، بعد تخفيضه المعونة الاقتصادية لمصر في عام 2018 إلى 112.5 مليون دولار، مع الحفاظ على المعونة العسكرية عند قيمتها المستقرة سنويا منذ عقود (1.3 مليار دولار). وبهذا تتراجع المعونة الاقتصادية لمصر إلى حوالي العشر تقريبا، مقارنة بما كانت عليه في الثمانينيات. ويذكر تقرير لخدمة أبحاث الكونغرس أن ترامب كان ينوى أن يخفض المعونة الاقتصادية العام الجاري إلى 75 مليون دولار فقط. وتأتي معونة العام الحالي بعدد من القيود ليس قليلا، حيث يمكن للحكومة الأميركية أن تستقطع منها أي مبالغ تنفقها في الدفاع القانوني عن المنظمات الأميركية التي حظرتها وتقاضيها الحكومة المصرية منذ ثورة يناير عام 2011، كما يمكنها أيضا تجميد 300 مليون دولار من المعونة العسكرية لمصر، ما لم تلتزم الأخيرة بشروط كثيرة متعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان وبالعقوبات المفروضة على كوريا الشمالية.
ومنذ سنوات، وربما عقود، والجدل لا ينقطع حول المعونة الأميركية وإمكانية استخدامها سلاحا للضغط على النظام المصري في مجالاتٍ كالتحول الديمقراطي أو تحقيق مصالح أميركا الاستراتيجية، حيث تتعالى تكرارا أصوات مصرية وأميركية، مطالبة الحكومة الأميركية بالضغط على نظيرتها المصرية، مستخدمة سلاح المعونة. وقد اشتعل هذا الجدل بعد انقلاب يوليو 2013، حيث عطلت الحكومة الأميركية إنفاق بعض المعونة فترة، كما تجدد في أغسطس/ آب الماضي، حين جمدت الحكومة الأميركية جزءا من المساعدات، بسبب علاقة مصر بكوريا الشمالية.
وربما تعطي تلك المؤشرات دعاة الديمقراطية بعض الأمل في إمكانية أن تتحوّل المعونة
الأميركية أداة ضغط حقيقية على صعيد مطالبة النظام المصري باحترام التحول الديمقراطي وحقوق الإنسان. وفي المقابل، تفيد القراءة الجادة لتاريخ المعونة الأميركية لمصر، وأهدافها وسبل إنفاقها، بأنها ذات طبيعة أمنية وواقعية بامتياز، لا ترتبط كثيرا بالحسابات المؤقتة والأخلاقية الطارئة على العلاقات الأميركية المصرية. فتاريخيا ارتبطت المعونة الأميركية لمصر بالمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة، فهي ليست نتاج حوار بين الطرفين، المصري والأميركي، أو لعلاقات قيمية وتاريخية تربط الطرفين، بل جاءت أساسا إحدى تبعات اتفاقات السلام بين مصر وإسرائيل، وتحول مصر سياسيا وعسكريا بعيدا عن الاتحاد السوفيتي، ونحو القطب الأميركي.
وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي وحرب تحرير الكويت وجمود عملية السلام، تراجعت مكانة مصر الاستراتيجية لدى أميركا، وقرّرت الأخيرة، تحت ضغط الجمهوريين ولوبي إسرائيل، خفض المعونة الاقتصادية لمصر، توفيرا للنفقات وزيادة المساعدات العسكرية لإسرائيل، من دون أي زيادة مقابلة للمساعدات العسكرية لمصر، على الرغم من معارضة مصر ذلك التخفيض. ولذلك انخفضت المعونة الاقتصادية من حوالي 850 مليون دولار سنويا في 1998 إلى حوالي 400 مليون في 2008، وفي 2011 بلغت المعونة الاقتصادية 240 مليون دولار، وهو مبلغ ضئيل للغاية مقارنة باحتياجات مصر المالية بعد ثورة يناير، وبالمساعدات التي تدفقت عليها من دول الخليج، سعيا منها إلى التأثير على مجريات الأحداث الداخلية في البلاد. وفي تلك الفترة، قرّرت إدارة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، تقديم ملياري دولار، في صورة مساعدات وضمانات قروض لمصر، دعما للتحول الديمقراطي، وهي مساعدات لم يُقدم إلا جزءٌ صغير منها (190 مليون دولار)، قبل أن ينقلب الجيش على التحول الديمقراطي في 3 يوليو/ تموز 2013، وتحجم أميركا عن تقديم بقيتها.
ويبدو أن تراجع حجم المعونة الاقتصادية مقارنة باحتياجات مصر المالية، والمساعدات التي حصلت عليها من دول أخرى، دفعت الحكومة المصرية إلى اتخاذ مواقف أكثر قوة وصرامة تجاه سبل إنفاق تلك المعونة، حيث يفيد تقرير صادر في فبراير/ شباط 2015 عن مكتب المحاسبة الأميركي، وهو مكتب فيدرالي يراقب إنفاق الحكومة الأميركية، بأن الحكومة المصرية عطلت بين 2009 و2014 إنفاق 200 مليون دولار من المعونة الاقتصادية المقدمة خلال تلك السنوات، بسبب مخاوف تتعلق بأوجه الإنفاق.
وتذهب غالبية المعونة الاقتصادية إلى مجالات اقتصادية وتعليمية، ولا يخصص منها لبرامج نشر الديمقراطية إلا جزء صغير، لم يتعدّ، في أوج الإنفاق الأميركي على تلك المجالات في مصر، أكثر من 50 مليون دولار سنويا، وهو أمر تحقق ربما عاما أو عامين، خلال عهد جورج دبليو بوش الذي سعى إلى الضغط على الدول العربية، من أجل التحول الديمقراطي بعد حرب العراق، وفي عام 2011، حين انفتحت إدارة أوباما على الإنفاق على الديمقراطية وحقوق الإنسان بعد ثورة يناير. وفي الحالتين، واجهت الإدارة الأميركية معارضة قوية من النظام المصري ومؤسساته الأمنية، وتراجعت سريعا عن تلك المستويات من الإنفاق، مكتفية بإنفاق نصف هذا المبلغ تقريبا أو أقل سنويا.
ويذهب معظم الإنفاق الأميركي على الديمقراطية وحقوق الإنسان إلى برامج مشتركة مع الحكومة المصرية، كتدريب موظفي الدولة والقضاة. ومع ذلك، عطلت الحكومة المصرية إنفاق مائتي مليون دولار من المعونة الاقتصادية خلال خمس سنوات، بسبب مخاوفها من أوجه الإنفاق الأميركي، في إشارةٍ مهمةٍ إلى تراجع أهمية المعونة الاقتصادية الأميركية لمصر، ولشعور النظام المصري بالقدرة على معارضة أوجه إنفاقها، حتى لو أدى الأمر إلى تعطيل نسبة كبيرة منها.
أضف إلى ما سبق حقيقةً مهمةً للغاية، أن الجزء الأكبر من المعونة الأميركية المقدمة لمصر
هو المعونة العسكرية، والتي تتمتع بثبات واستقرار واضحين منذ أوائل الثمانينيات، حيث تقدم أميركا سنويا لمصر 1.3 مليار دولار، تذهب، بشكل أساسي، وفقا لتقارير حكومية أميركية، إلى شراء أسلحة أميركية وتدريب القوات العسكرية المصرية عليها. حيث يوضح تقرير لمكتب المحاسبة الأميركي، صدر في إبريل/ نيسان 2016، عن أوجه إنفاق المعونة العسكرية لمصر، أن غالبية المعونة (أكثر من 95%) يخصص لشراء الأسلحة التي تذهب إلى الجيش المصري بشكل عام، وأن هذا الجزء الضخم لا يخضع لأي مراقبة من الحكومة الأميركية، حيث تفرض القوانين على الإدارات الأميركية تتبع مصير المساعدات الخارجية، للتأكد من أنها لا تنفق بشكل يضر بالمصالح الأميركية، من قبيل دعم منتهكي حقوق الإنسان أو الجماعات الإرهابية. وهنا يذكر التقرير أن جزءا ضئيلا للغاية من المعونة العسكرية (قد لا يتعدى عدة ملايين) يذهب سنويا إلى دعم قوات أمنية غير عسكرية وتدريبها، حيث تسعى الإدارة الأميركية إلى المراقبة الدورية قدر الإمكان على أوجه إنفاق هذا الجزء الصغير. أما الغالبية العظمى من المساعدات فتذهب إلى القوات المسلحة من دون رقابةٍ تذكر.
ولعل الحقائق السابقة تكشف الكثير عن المعونة الأميركية لمصر، من حيث طبيعتها وأهدافها، فالجزء الأكبر منها عسكري أمني بامتياز، يذهب بانتظام إلى الجيش، في مقابل الحفاظ على التزامات الدولة المصرية تجاه الولايات المتحدة وإسرائيل، وهي أموال تذهب إلى شراء الأسلحة وتدريب القوات، من دون مراقبة أميركية، وتتمتع بحصانة واستقرار واضحين، كجزء من تفاهمات العلاقة بين مصر والولايات المتحدة منذ نهاية السبعينيات. أما المساعدات المقدمة لقوات غير عسكرية والمساعدات الاقتصادية فهي ضئيلة قليلة الأهمية، وقابلة للتراجع والنقصان، وربما التلاشي تدريجيا، من دون معارضة من النظام المصري الذي يدرك طبيعة الجوهر الأمني والسياسي للعلاقة التي تربطه بالولايات المتحدة، وقد يرحب بأكبر قدر من المساعدات الاقتصادية الخارجية، ما لم تذهب إلى مجالات دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
ومنذ سنوات، وربما عقود، والجدل لا ينقطع حول المعونة الأميركية وإمكانية استخدامها سلاحا للضغط على النظام المصري في مجالاتٍ كالتحول الديمقراطي أو تحقيق مصالح أميركا الاستراتيجية، حيث تتعالى تكرارا أصوات مصرية وأميركية، مطالبة الحكومة الأميركية بالضغط على نظيرتها المصرية، مستخدمة سلاح المعونة. وقد اشتعل هذا الجدل بعد انقلاب يوليو 2013، حيث عطلت الحكومة الأميركية إنفاق بعض المعونة فترة، كما تجدد في أغسطس/ آب الماضي، حين جمدت الحكومة الأميركية جزءا من المساعدات، بسبب علاقة مصر بكوريا الشمالية.
وربما تعطي تلك المؤشرات دعاة الديمقراطية بعض الأمل في إمكانية أن تتحوّل المعونة
وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي وحرب تحرير الكويت وجمود عملية السلام، تراجعت مكانة مصر الاستراتيجية لدى أميركا، وقرّرت الأخيرة، تحت ضغط الجمهوريين ولوبي إسرائيل، خفض المعونة الاقتصادية لمصر، توفيرا للنفقات وزيادة المساعدات العسكرية لإسرائيل، من دون أي زيادة مقابلة للمساعدات العسكرية لمصر، على الرغم من معارضة مصر ذلك التخفيض. ولذلك انخفضت المعونة الاقتصادية من حوالي 850 مليون دولار سنويا في 1998 إلى حوالي 400 مليون في 2008، وفي 2011 بلغت المعونة الاقتصادية 240 مليون دولار، وهو مبلغ ضئيل للغاية مقارنة باحتياجات مصر المالية بعد ثورة يناير، وبالمساعدات التي تدفقت عليها من دول الخليج، سعيا منها إلى التأثير على مجريات الأحداث الداخلية في البلاد. وفي تلك الفترة، قرّرت إدارة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، تقديم ملياري دولار، في صورة مساعدات وضمانات قروض لمصر، دعما للتحول الديمقراطي، وهي مساعدات لم يُقدم إلا جزءٌ صغير منها (190 مليون دولار)، قبل أن ينقلب الجيش على التحول الديمقراطي في 3 يوليو/ تموز 2013، وتحجم أميركا عن تقديم بقيتها.
ويبدو أن تراجع حجم المعونة الاقتصادية مقارنة باحتياجات مصر المالية، والمساعدات التي حصلت عليها من دول أخرى، دفعت الحكومة المصرية إلى اتخاذ مواقف أكثر قوة وصرامة تجاه سبل إنفاق تلك المعونة، حيث يفيد تقرير صادر في فبراير/ شباط 2015 عن مكتب المحاسبة الأميركي، وهو مكتب فيدرالي يراقب إنفاق الحكومة الأميركية، بأن الحكومة المصرية عطلت بين 2009 و2014 إنفاق 200 مليون دولار من المعونة الاقتصادية المقدمة خلال تلك السنوات، بسبب مخاوف تتعلق بأوجه الإنفاق.
وتذهب غالبية المعونة الاقتصادية إلى مجالات اقتصادية وتعليمية، ولا يخصص منها لبرامج نشر الديمقراطية إلا جزء صغير، لم يتعدّ، في أوج الإنفاق الأميركي على تلك المجالات في مصر، أكثر من 50 مليون دولار سنويا، وهو أمر تحقق ربما عاما أو عامين، خلال عهد جورج دبليو بوش الذي سعى إلى الضغط على الدول العربية، من أجل التحول الديمقراطي بعد حرب العراق، وفي عام 2011، حين انفتحت إدارة أوباما على الإنفاق على الديمقراطية وحقوق الإنسان بعد ثورة يناير. وفي الحالتين، واجهت الإدارة الأميركية معارضة قوية من النظام المصري ومؤسساته الأمنية، وتراجعت سريعا عن تلك المستويات من الإنفاق، مكتفية بإنفاق نصف هذا المبلغ تقريبا أو أقل سنويا.
ويذهب معظم الإنفاق الأميركي على الديمقراطية وحقوق الإنسان إلى برامج مشتركة مع الحكومة المصرية، كتدريب موظفي الدولة والقضاة. ومع ذلك، عطلت الحكومة المصرية إنفاق مائتي مليون دولار من المعونة الاقتصادية خلال خمس سنوات، بسبب مخاوفها من أوجه الإنفاق الأميركي، في إشارةٍ مهمةٍ إلى تراجع أهمية المعونة الاقتصادية الأميركية لمصر، ولشعور النظام المصري بالقدرة على معارضة أوجه إنفاقها، حتى لو أدى الأمر إلى تعطيل نسبة كبيرة منها.
أضف إلى ما سبق حقيقةً مهمةً للغاية، أن الجزء الأكبر من المعونة الأميركية المقدمة لمصر
ولعل الحقائق السابقة تكشف الكثير عن المعونة الأميركية لمصر، من حيث طبيعتها وأهدافها، فالجزء الأكبر منها عسكري أمني بامتياز، يذهب بانتظام إلى الجيش، في مقابل الحفاظ على التزامات الدولة المصرية تجاه الولايات المتحدة وإسرائيل، وهي أموال تذهب إلى شراء الأسلحة وتدريب القوات، من دون مراقبة أميركية، وتتمتع بحصانة واستقرار واضحين، كجزء من تفاهمات العلاقة بين مصر والولايات المتحدة منذ نهاية السبعينيات. أما المساعدات المقدمة لقوات غير عسكرية والمساعدات الاقتصادية فهي ضئيلة قليلة الأهمية، وقابلة للتراجع والنقصان، وربما التلاشي تدريجيا، من دون معارضة من النظام المصري الذي يدرك طبيعة الجوهر الأمني والسياسي للعلاقة التي تربطه بالولايات المتحدة، وقد يرحب بأكبر قدر من المساعدات الاقتصادية الخارجية، ما لم تذهب إلى مجالات دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان.