تزداد التساؤلات في الأوساط التونسية عن الموقف الدولي من الأزمة في تونس وعن مدى تأثيره في الصراع بين الرئيس قيس سعيّد والمعارضة، خصوصاً في ظل تبدلات تبرر التساؤل عما إذا كانت الساحة الدولية، ولا سيما الأوروبية، قد سلّمت بفكرة دعم سعيّد بسبب مخاوف من الانهيار وتفاقم الهجرة. وبرزت في الأيام الأخيرة زيارة سعيّد إلى باريس الأربعاء الماضي، للمشاركة في قمة "باريس من أجل عقد مالي جديد". والتقى هناك المديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستالينا غورغيفا، وعدداً من المسؤولين الدوليين.
ولإن بدا سعيّد غير مكترث كثيراً بالضغط السياسي الذي واجهه بقوة ورد عليه برفض التدخّل الخارجي في شؤون بلاده، فإن المسألة الاقتصادية تبدو مختلفة بالنظر إلى حاجة تونس المستعجلة لضخ أوكسجين في خزائنها التي لا تزال تقاوم للظفر بتمويلات بأحسن شروط ممكنة.
والخميس الماضي، تم توقيع اتفاق بين الحكومة التونسية والبنك الدولي، لتمويل مشروع خط الربط الكهربائي بين تونس وإيطاليا بقيمة تناهز 268 مليون دولار، فيما اعتُبر إشارة لبدء فك ما يشبه الحصار الاقتصادي.
وعاد وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاجاني، ليؤكد في تصريح صحافي الأسبوع الماضي، أن "استقرار تونس مهم لإيطاليا، لا لوقف تدفق الهجرة وحسب، وإنما هو استقرار لأفريقيا وشمال أفريقيا".
وفيما تُظهر إيطاليا، ومن بعدها فرنسا حماسة في الدفاع عن الملف تونسي دولياً، تبدو الولايات المتحدة أقل حماسة.
شوكات: قضية الهجرة غير النظامية، التي ازدادت حدّتها، قد أثّرت على الموقف الدولي من الأزمة السياسية في تونس
وتناقلت وكالات الأنباء، الأسبوع الماضي، خبر تقديم نواب أميركيين مشروع قانون حماية الديمقراطية الذي يربط تمويل تونس بإصلاحات جوهرية، كاستقلال القضاء ووقف تتبّع المدنيين أمام المحاكم العسكرية. ويهدف القانون الجديد إلى تعزيز المؤسسات الديمقراطية من خلال الحد من التمويل حتى تعيد السلطة الضوابط والتوازنات وتنشئ صندوقاً لدعم الإصلاحات.
ويبقى الملف الحقوقي مصدر قلق كبير لحكومة سعيّد، إذ أعرب مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك، في 23 يونيو/حزيران الحالي، عن "قلقه العميق إزاء انتهاكات الحريات في تونس، خصوصاً حرية الصحافة". وتابع تورك: "من المقلق أن نرى تونس، البلد الذي كان يحمل الكثير من الأمل، يتراجع ويتخلى عن مكتسباته في مجال حقوق الإنسان خلال العقد الماضي"، وفق البيان الذي تداولته العديد من الوكالات.
ولم يتأخر رد الخارجية التونسية على هذا الموقف، إذ اعتبرت في بيان لها أنه "كان حريّاً بالمفوضية السامية لحقوق الإنسان، باعتبارها جهة أممية عليها واجب الحياد، تحرّي الدقة والموضوعية قبل إصدار مواقف مجافية للواقع".
تأثيرات قضية الهجرة
وتعليقاً على هذه التطورات، قال مدير المعهد العربي للديمقراطية، الوزير الأسبق خالد شوكات، لـ"العربي الجديد"، إن" قضية الهجرة غير النظامية، التي ازدادت حدّتها، قد أثّرت على الموقف الدولي من الأزمة السياسية في تونس، خصوصاً الموقف الأوروبي، وتحديداً الموقفين الإيطالي والفرنسي، فهما المعنيان أكثر من غيرهما بهذه المسألة، بالنظر إلى توجّه أغلب المهاجرين إلى أراضيهما".
وأضاف أن روما وباريس "عُرف عن كل منهما عدم اهتمامه بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان في الضفة الجنوبية للمتوسط، بل إنني أزعم أن الدولة العميقة في البلدين، ما تزال محافظة على نظرتها الاستعمارية والاستعلائية تجاه الشعوب العربية والأفريقية، وتعتقد أنها شعوب ليست ناضجة للعيش تحت أنظمة حكم ديمقراطية، ولهذا فإن الموقفين الفرنسي والإيطالي كانا مرحبين منذ 25 يوليو/تموز 2021 بعودة تونس إلى الحكم الفردي".
وحول ما إذا ما كانت هناك اختلافات بين هذه المواقف والموقف الأميركي، رأى شوكات أن "هناك اختلافاً، إذ لا يزال الأميركيون على قدر من الحياء، خصوصاً أن الرئيس جو بايدن نجح بشعار دعم الديمقراطيات والحفاظ عليها، ولهذا ما تزال واشنطن تذكّر تونس بالتزاماتها الديمقراطية وتقرن الدعم بالعودة إلى مسار الانتقال الديمقراطي".
المكي: هناك من يريد استغلال ضعف نظام قيس سعيّد لفرض اتفاقات معينة مثل اتفاق الهجرة
واعتبر في المقابل أن "روما وباريس رفعتا برقع الحياء منذ زمن"، مضيفاً أن "إيطاليا المحكومة بالفاشيين ترى الديمقراطية حاجة ثانوية قياساً إلى مصالحها المباشرة في المنطقة، فيما تبدو فرنسا التي تملك الجزء الأكبر من المصالح الأوروبية في تونس من دون أي التزام واضح تجاه الديمقراطية المنتكسة في تونس، مفضّلة كعادتها التركيز على الأزمة المالية والاقتصادية الحادة التي تهدد تونس بالانهيار وهو ما قد تنجم عنه أضرار كبيرة مباشرة على مصالحها".
وعن مدى تأثير هذه المواقف الخارجية في طبيعة الصراع في تونس، قال شوكات إن "الخارج يبقى أحد العوامل وليس العامل الوحيد، وتضخيم دوره فيه بعض المبالغة، فالحراك الداخلي أهم عندما يتصل الأمر بالديمقراطية، لأن الديمقراطية هي استحقاق داخلي في المقام الأول، وليست وصفة جاهزة يمكن فرضها من قبل الخارج".
دور القوى الداخلية
من جهته، اعتبر رئيس حزب العمل والإنجاز، الوزير الأسبق عبد اللطيف المكي، أن "سعيّد قد يكون يحظى بدعم خارجي وقبول لبرنامجه وروزنامته، ولكن هذا ليس الأهم، لأن ما يهم هو ميزان القوى الداخلية، وهناك من يريد استغلال ضعف نظام قيس سعيّد لفرض اتفاقات معينة مثل اتفاق الهجرة". ولفت في حديث لـ"العربي الجديد" إلى أن "هناك من الخارج من يدافع عن الديمقراطية في تونس، ولكن في أغلب المواقف الدولية هناك دائماً حسابات، وما يهم هو الحساب مع الرأي الداخلي التونسي".
وحول طبيعة المشهد الداخلي، قال المكي إن "الوضع السياسي حالياً في انسداد، والعملية السياسية التي قام بها سعيّد إقصائية وغير تشاركية، وبالتالي أنتجت هياكل غير ممثِّلة لكل الشعب التونسي، والنتيجة هي فتور الحماس حتى في صفوف أنصاره، وما يقوم به لم يعد يلاقي أي صدى".
وأشار إلى أن "الانسداد لم يشمل الجوانب السياسية فقط، بل الاقتصادية أيضاً، إذ يتم ترديد شعارات من دون أي إنجاز يذكر، وأوضاع البلاد تتراجع شيئاً فشيئاً". وأكد أن "سعيّد حاول إيجاد اتفاق حول ملف الهجرة، ولكنه فشل، وهو الآن في مأزق، فإما يقبل باتفاق وفق شروط الأوروبيين، مقابل بعض التمويلات التي لن تحقق شيئاً لتونس وهو ما يجعل أزمة البلاد قائمة، أو يرفض ويزيد من أزمته".
إسماعيل: المعارضة مدعوة إلى صياغة برنامج مرحلي يخاطب الداخل والخارج بجمل سياسية واقتصادية واضحة على قاعدة استعادة الديمقراطية
وقال المكي إن "سعيّد تراجع حتى لدى أنصاره، وهناك تقهقر واضح لأنه تبيّن أنه لا يملك رؤيا ولا برنامجاً"، مبيناً أن "التونسيين الذين سبق لهم الحكم على القوى التي كانت تحكم قبل 25 يوليو 2021 بدأوا يأخذون موقفاً سلبياً من قيس سعيّد".
ما المطلوب من المعارضة التونسية؟
أما الباحث زهير إسماعيل، أحد مؤسسي "مواطنون ضد الانقلاب"، فاعتبر أن "للعامل الدولي تأثيره المباشر على مستقبل الصراع والديمقراطية في تونس، ويعود هذا إلى مراحل الحكم السابقة منذ دولة الاستقلال على الأقل، بما في ذلك عشرية الانتقال وما كان من تجريف لشروط السيادة الوطنية على مدى عقود مديدة بلغت مع الانقلاب درجة الصفر".
وأوضح إسماعيل أن الصراع الحالي "على الرغم من أهميته وعنوانه وأدواته المحلية، فإنّه واقعياً يتم بشروط دولية محكومة بصراع المحاور والنفوذ وإعادة ترتيب موازين القوى". وأضاف أن "هذه القوى التي تذكّر من حين إلى آخر بمرجعية الديمقراطية وحقوق الإنسان، تنشد في حقيقة الأمر الاستقرار السياسي الذي يضمن الديمقراطية سواء تحقق بها أو بغيرها".
ولفت إلى أن "الصراع حالياً يدور تحت أنظار شعب لم يخرج مهللاً للانقلاب كما يدّعي أنصار سعيّد وأصواته من الإعلام، ولا هو هبّ انتصاراً للديمقراطية المغدورة، كما لا يمكن أن يدّعيه أنصار الانتقال الديمقراطي والمدافعون عن الدستور والثورة وصوتهم الإعلامي الضعيف تقنياً واتصالياً".
ورأى أن "أهمّ خلاصة وأخطرها في المشهد السياسي بعد سنتين من الحكم الفردي الشعبوي المطلق أنّ المواجهة الدائرة لا عنوان لها إلا صراع الانقلاب والديمقراطية". ولفت إلى أنه "يمكن الحديث اليوم عن توازن ضعف بين الانقلاب والحركة الديمقراطية، فالحركة الديمقراطية منقسمة على الرغم مما يجمع مكوناتها من مبادئ عامة لم يتجاوز التعاطي معها المجاملات السياسية ولم تنجح في تحويلها إلى خطاب معركة وعرض سياسي جاذب".
وأضاف: "على الرغم من أن المعارضة لا تتحمّل الحكم وتبعاته، فإنها مع ذلك مدعوة إلى صياغة برنامج مرحلي يخاطب الداخل والخارج بجمل سياسية واقتصادية واضحة على قاعدة استعادة الديمقراطية وضرورتها لخروج البلاد من أزمتها المركّبة". وتابع: "في الجهة المقابلة تقف سلطة الانقلاب وهي تراوح مكانها وتواجه حقيقة أدائها الصفري وتحويلها الأزمة المالية الاقتصادية إلى كارثة وطنية. وهي غير قادرة على سد الفجوة في الميزانية التي تقدر بـ3,5 مليارات دولار، فتُجرّ بذلك إلى اتفاقيات مع صندوق النقد الدولي بشروط قاسية ومذلة".