الأمن في قلب الانتخابات الفرنسية... واليمين المتطرف أبرز المستفيدين

باريس

محمد المزديوي

avata
محمد المزديوي
23 ابريل 2017
6B0B0254-5DE7-43FA-97F5-4AF206CACA9C
+ الخط -


ليس من شك في أن الانتخابات الرئاسية الفرنسية الحالية، استثنائية بكل المقاييس. ليس فقط لأن الأحزاب التقليدية الكبرى انهارت أو هي في الطريق إلى الانهيار، (الجمهوريون والحزب الاشتراكي...) وأن أحزاباً عريقة لم تستطع تقديم مرشحين لها، كالشيوعي ومختلف تشكيلات الوسط (موديم، الاتحاد الديمقراطي المستقل)، وليس فقط لأن مرشحَيْن لهما حظوظ كبيرة ترشَّحا من خلال تشكيل حركتين لهما سرعان ما وجدتا أحزاباً في خدمتهما (حركتا إيمانويل ماكرون وجان لوك ميلانشون)، بل إنها استثنائية أيضاً لأن الهاجس الأمني هيمن عليها بشكل غير مسبوق، من البداية حتى النهاية. فلم تشهد الجمهورية الخامسة، من قبل، انتخابات في ظل "حالة الطوارئ"، ولا في ظل أجواء القلق الأمني.
وتخشى الحكومة الفرنسية من اعتداءات إرهابية للتشويش على الانتخابات، واعتقلت العديد من الأشخاص الذين يشكلون خطراً، من بينهم اثنان في مارسيليا قبل أيام، كانا في المراحل النهائية قبل تنفيذ اعتداء، وهي أعلنت عن إجراءات مشددة لتأمين سلامة المواطنين والسير العادي للاستحقاق الانتخابي. فقد أعلن وزير الداخلية ماتياس فيكل أن أكثر من 50 ألف شرطي ودركي سيقومون بتأمين 67 ألف مكتب انتخابي. وهي إجراءات أكدها رئيس الحكومة برنارد كازنوف بعد انتهاء مجلس الدفاع الذي انعقد بعد يوم من الاعتداء الإرهابي الذي وقع في الشانزيليزيه، مضيفاً أن "وحدات خاصة للتدخل ستكون في حالة تأهب للتدخل لضمان الرد الفوري على أي طارئ".
كما أنه ليس سرّاً أن المسألة الأمنية في فرنسا وفي دول غربية أخرى، أصبحت منذ عقود، من احتكار اليمين واليمين المتطرف، حتى لكأنَّ اليسار لا يكترث للأمر، ومن هنا اتهامه المستدام من قبل اليمين بأنه يضحي بأمن الفرنسيين وعدم الاستجابة لهواجسهم. ولعلّ هذا ما حاول وزير الداخلية السابق ورئيس الحكومة السابق مانويل فالس أن يقوله، حين كان يكرر أن "الأمن ليس من اختصاص اليسار ولا اليمين"، ولكنه لم يستطع أن يقنع به كثيراً من أنصاره.
وقد أدرك تنظيم "داعش" حساسية الأمر عند الشعوب الغربية، خصوصاً الفرنسي، فكرّس ضرباته على فرنسا منذ أكثر من سنتين، مغيّراً في كل مرة من تكتيكاته واستهدافاته، ما بين ضرب الصحافة ومسرح وملعب كرة قدم ومقاهٍ ورجال الشرطة والجيش، ثم أخيراً استهداف الشانزيليزيه، رمز جمال فرنسا وعزتها. كما أدرك التنظيم، أن اليمين المتطرف، وبعض تشكيلات اليمين التقليدي، هو القادر على إحداث الشرخ الذي يريده مُنظّرو التنظيم وفقهاؤه، أي تحويل الأقليات العربية المسلمة في فرنسا إلى كبش فداء لانتقام اليمين. ومن هنا يبدو كأن تنظيم "داعش" وبعض الأحزاب اليمينية، خصوصاً "الجبهة الوطنية" في فرنسا، يتفقان في الهدف، ولا يريان بين الشرق والغرب إلا الصدام.
فقد بدأت زعيمة "الجبهة الوطنية" مارين لوبان حملتها الانتخابية مستفيدة من أجواء ما بعد الهجمات الإرهابية التي ضربت باريس، واستفادت منها في كل الانتخابات التي أجريت أثناء ولاية فرانسوا هولاند، فحققت انتصارات انتخابية مهمة وحلّ حزبها الأول في المشهد السياسي الفرنسي. ثم استفادت من كل المآسي التي تعرَّض لها فرنسيون من جراء اعتداءات إرهابية، خصوصاً رجال الشرطة ورجل الدين المسيحي، وغيرهم. وعرفت لوبان كيف توظف كل هذه الاعتداءات لإظهار عجز الحكومة عن حماية الفرنسيين، والتأكيد على قدرتها هي على توفير هذا الأمن.


والغريب أنه في كل مرة تبدأ الحملة الانتخابية في مناقشة قضايا تهم المواطن، في حياته اليومية، مثل العمل والصحة والتعليم والتقاعد، تأتي اعتداءات من "داعش" لتعيد المسألة الأمنية إلى المربع الأول، فيتحول الأمن الموضوع الرئيس وأحياناً الوحيد. ولو فكَّر تنظيم "داعش" في تقديم هدية للوبان وطروحاتها، لما استطاع أن يقدّم أحسن من الاعتداء الإرهابي في الشانزيليزيه، قبل ثلاثة أيام فقط من الاستحقاق الانتخابي، وفي هذا المكان الرمزي.
واستغلت لوبان هذا الاعتداء بأكثر الأشكال الممكنة، فجاءت تصريحاتها النارية لتصفي الحسابات مع اليمين واليسار، وتكشف كم كانت تنتظر مثل هذه الهدايا. وقالت لوبان، قبيل فترة الصمت الانتخابي: "كل شيء تم تنفيذه حتى نخسر الحرب ضد الإرهاب"، مضيفة: "الحرب التي شُنَّت علينا هي حربٌ غير متماثلة، ثورية، وهدفها إخضاعنا لأيديولوجيا قاتلة... شُنّت علينا من دون رحمة ومن دون توقف. والجميع يدرك أنه لا يمكننا أن نخسرها. إلا أنه منذ عشر سنوات، في ظل حكومات من اليمين ومن اليسار، كل شيء تم تنفيذه حتى نخسرها"، وختمت تصريحها: "يتوجب (انتخاب) رئاسة تعمل وتحمي... الردّ يجب أن يكون شاملاً وكلياً". ولعبت لوبان أيضاً على وتر "تسامح" القضاء مع الإرهابيين، وقالت: "لن نستطيع الفوز في هذه الحرب إذا لم نضع حداً نهائياً وفورياً للتسامح الجزائي غير المسبوق، والذي أتاح للمهاجم، الذي عبَّرَ عن نيته في قتل رجال الشرطة، أن ينجح في محاولته الرابعة".
استخدمت لوبان، ومرشح اليمين فرانسوا فيون بدرجة أقل، اعتداء الشانزيليزيه إلى أقصى الحدود، وهو ما دفع رئيس الحكومة برنارد كازنوف إلى الرد، بأن لوبان وفيون اختارا "المبالغة والتقسيم"، متهماً لوبان بأنها "استخدمت، بصفاقة، الخوف والانفعال لأغراض سياسية، بشكل حصري". وقريباً منه كان موقف رئيس الحزب الاشتراكي الذي قال إنَّ "مارين لوبان مستعدة لكل شيء ولاستخدام كل الأحداث من أجل قضم بعض الأصوات".
الاستنفار الأمني ليس هو الشكل الأمثل في بلد ديمقراطي لممارسة الانتخاب، ولكنّ الفرنسيين أصبحوا معتادين عليه، منذ اعتداءات 2015 الإرهابية وما تلاها، ولعل هذا ما جعل، حتى الساعة، نسبة كبيرة من الفرنسيين تؤيد تمديد حالة الطوارئ، على الرغم من تأثيرها على كثير من الحريات الفردية.
هل سيغير الاعتداء نتائج الانتخابات، كما لمّح الرئيس الأميركي دونالد ترامب؟ الوضع مختلف في فرنسا عنه في الولايات المتحدة. ففي أميركا لا يوجد سوى حزبين رئيسيين، وبالتالي فإنّ أي تقصير للحزب الحاكم يمكن أن يكلفه غالياً. بينما في فرنسا، حيث التشظي الحزبي والانتخابي، فالأمر يختلف. إذ يمكن أن تصل لوبان بسهولة إلى الدور الثاني، كما وصل والدها إليه من قبل في سنة 2002، من دون حاجة إلى اعتداءات إرهابية. يكفي الحزب المتطرف أن يعلن كراهيته للمهاجرين والأجانب ويتبنى خطاباً شعبوياً، حتى يحقق مكاسب. كما يمكن أن يستغل فرانسوا فيون هذه الاعتداءات لإحداث اختراق كان ينتظره منذ أسابيع، وقد أطلق، هو الآخر، تصريحات ضمنّها انتقاداً للحكومة ووعوداً بزيادة عديد الشرطة وأيضاً طاقة السجون الاستيعابية.
سيدخل الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند التاريخ باعتباره الرئيس الذي حمل الزي العسكري أكثر من سواه، من أجل محاربة "داعش" وأخواته. وسيشهد له التاريخ أن الفرنسيين لم يعترفوا له من فضل كبير إلا في هذا الجانب القتالي. كما أن التاريخ سيكتب أن تنظيم "داعش" بارَزَ فرنسا، أكثر من غيرها من دول الغرب، طيلة سنوات، أنهكت البلد وربما هذا ساهم، بشكل ما، في عدم ترشح رئيسها لولاية ثانية. فقد دخل "داعش" فرنسا بقوة، في سنة 2015، ثم استوطن الهمّ السياسي والاجتماعي والأمني الفرنسي حتى نهاية ولاية هولاند، وأصبح عاملاً رئيساً في الانتخابات الرئاسية. والمقلق في الأمر أنه، في انتظار استئصال التنظيم في العراق وسورية، سيظلّ شوكة في قدم الرئيس الفرنسي الجديد، مهما كان توجّهه السياسي والأيديولوجي.

ذات صلة

الصورة
معرض يورونيفال في فرنسا، 27 أكتوبر 2008 (Getty)

سياسة

بعد منع فرنسا مشاركة الشركات الإسرائيلية في معرض الأسلحة يوروساتوري، ها هي تمنع الآن أيضاً مشاركة إسرائيل في معرض يورونافال.
الصورة
تظاهرة ضد العنصرية في بريطانيا "اللاجئون هم موضع ترحيب هنا" في برمنغهام، 7 أغسطس 2024 (توماس كرايش/الأناضول)

سياسة

شارك آلاف المناهضين للعنصرية، الأربعاء، في تظاهرات جرت بمدن عدة في بريطانيا تنديداً بتظاهرات نظمها اليمين المتطرف في الأيام الأخيرة وتخلّلتها أعمال عنف.
الصورة
امرأة في منطقة الصحراء، 3 فبراير 2017 (Getty)

سياسة

دخلت العلاقات بين فرنسا والجزائر في أزمة بعد إعلان فرنسا دعمها مخطط الحكم الذاتي الذي قدمه المغرب بشأن الصحراء وهو ما قد لا يساعد في حل القضية.
الصورة
تواصل الاحتجاجات ضد "هيئة تحرير الشام"، 31/5/2024 (العربي الجديد)

سياسة

شهدت مدن وبلدات في أرياف محافظتي إدلب وحلب الواقعة ضمن مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام احتجاجات ضد زعيمها أبو محمد الجولاني وجهازها الأمني