تراجَعَ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ليس في ذلك أدنى شك، تحت أي مسميات أو توصيف، على الرغم من تلاعبه بالكلمات وإتقانه المواربة اللغوية، لكنه بدا متراجعاً عما قاله سابقاً في قلب الأزمة مع العالم الإسلامي. قال إننا لم نفهمه وأخرجنا تصريحاته عن سياقها، وهو ملجأ أغلب السياسيين اليوم، وإنه لم يكن يقصد المسلمين أو الإسلام، بل المتطرفين منهم، وكأنه لم يكن قادراً على قول ذلك منذ البداية وبالوضوح اللازم، وكأنه لا يعرف تداعيات ذلك ولا يقدّرها. ولعل أفضل رد هو ما ورد للباحث الاجتماعي جان فرنسوا بيّار الذي أكد في نص نشرته "لوموند" أن "هناك إسلاموفوبيا دولة في فرنسا، وأن لديه غضباً من نفاق جزء من النخبة الفرنسية".
ولكن لا ينبغي فهم هذا التراجع على أساس أنه انتصار لدى كثيرين، سيعودون إلى منصات التواصل الاجتماعي للاحتفاء بنصر وهمي، يعود بعده الجميع إلى معاركه المحلية القديمة.
السؤال الذي ينبغي أن يطرحه الجميع هو لماذا اختار ماكرون أن يتراجع وبهذه السرعة؟ لذلك طبعاً إجابات وأسباب متعددة، من أهمها حملة المقاطعة التي أربكت المؤسسات الفرنسية، والخوف من اتساعها وتواصلها، وليس صحيحاً كما قال إن المقاطعين يدعمهم متطرفون، لأن مواطنين بسطاء كثراً لا علاقة لهم بالسياسة، ارتبكت أيديهم في المحال التجارية وهم يهمّون بشراء جبن أو زبدة فرنسية، وتراجعوا سريعاً تعاطفاً مع رسولهم وعودة فطرية تلقائية إلى جذور تنتصر للأوطان وللعروبة، ولكل هذه المفاهيم التي ضيّعتها أيام العرب الصعبة.
أمام هذا السلاح العظيم، المقاطعة، الذي كلما لوّح به العرب والمسلمون في معاركهم الكبيرة، حققوا نصراً ما، نتساءل اليوم كيف نضيّع هذا السلاح من أيدينا، وهو أبلغ وأكثر تأثيراً في كل المعادلات التي فشلت السياسة في تغييرها. وليس أبلغ من النظر في حملات مقاطعة إسرائيل، التي تنشط حيناً وتخفت أحياناً كثيرة، على الرغم من أنها كانت تدفعها إلى استجداء أي اعتراف ومن أيٍّ كان، وتحت أي صيغة ومع أي طرف، ولكنها قد تشبع عن ذلك اليوم بعدما اتسعت رقعة تواصلها مع عرب باعوا وانتهى الموضوع.
ليس من عذر ولا ذريعة للشعوب العربية والإسلامية في مقاطعة إسرائيل ومن يدعمها، لأن المقاطعة لا تحتاج حكومة شجاعة ولا رئيساً عروبياً ولا مؤسسات وطنية. يكفي أن تدير ظهرك في رواق المتجر لهذه المواد المستوردة، فتحمي اقتصاد بلدك وتعاقب أعداءك ثم تعود إلى بيتك منتصراً، وستبدأ بحليب وجبن وشكولاتة، وستصل بالتأكيد إلى أبعد من ذلك. إلا أننا مع الأسف شعوب تعيش اليوم على "فيسبوك"، فيه تحارب وفيه تنتصر.