في غياب الاقتصاد الفلسطيني الذاتي

27 ديسمبر 2020
تقوم إسرائيل بتدمير منهجي للفلسطينيين بكل جوانب الحياة (مجدي فتحي/Getty)
+ الخط -

ينعكس الوضع الفلسطيني السياسي والجغرافي المقسم والخاضع للاحتلال على الوضع الاقتصادي كذلك، لذا يصعب الحديث عن اقتصاد فلسطيني قائم بذاته في أي من التجمعات الفلسطينية العديدة، بما فيها مناطق سلطتي الضفة وغزة. كما يستحيل التحدث عن حلول فلسطينية تعنى بمعالجة الصعوبات والمشاكل الاقتصادية التي تعصف بالتجمعات الفلسطينية بمعزل عن الرؤى والبرامج السياسية ونوعا ما الاجتماعية أيضا. حيث تكثر العوامل التي تتحكم بظروف وأوضاع الفلسطينيين الاقتصادية وبإمكانيات المؤسسات والدوائر الرسمية الفلسطينية بشقيها السلطوية في الضفة وغزة من ناحية، ودوائر منظمة التحرير من ناحية ثانية، فغالبية هذه العوامل خارجية لا يملك الجسم الرسمي الفلسطيني إمكانية التحكم بها أو حتى التنبؤ بها، من دور وتوجهات وقدرات وكالة الأونروا، والمنح الخارجية الأوروبية والعربية والأميركية، وقرارات وممارسات سلطة الاحتلال الصهيوني تجاه المناطق والشعب الفلسطيني وكذلك تجاه الأموال الفلسطينية الرسمية والفردية على حد سواء.
فنحن في وضع استثنائي في تعقيده من حيث سيطرة قوة استعمارية غير تقليدية، لا تسعى إلى نهب ثروات البلد عبر استغلال قدراته البشرية، بل عبر إفراغ البلد من سكانه الأصليين واستبدالهم بمستوطنين جدد وعمالة خارجية رخيصة أحيانا، والعمل على تدمير أي نواة اقتصادية فلسطينية يمكن البناء عليها لتشييد اقتصاد فلسطيني واضح المعالم. فالصهيونية لا تسعى إلى دمج الاقتصاد الفلسطيني باقتصادها الذاتي، حتى لو حقق لها ذلك مصالح اقتصادية كبيرة، بل يعنيها القضاء على ملامح هذا الاقتصاد الأولية والبسيطة، كتجزئة الأسواق المحلية عبر الحواجز والمستوطنات وجدار الفصل. وسلب المجتمع الفلسطيني جميع الوسائل الإنتاجية الضرورية لأي عملية إنتاجية بما فيها الطبيعية منها، كالأرضي الصالحة للزراعة أو حتى الرعي، من خلال سيطرة المستوطنين عليها مباشرة أو عبر دورية اعتداءاتهم التي تحول دون العمل فيها، وعبر عزلها عن التجمعات السكنية الفلسطينية. وأيضا من خلال احتجاز المواد الأولية الرئيسية للعمليات الإنتاجية، بما فيها المياه التي تمثل محور الإنتاج الزراعي والرعوي وعنصرا أساسيا في العديد من الصناعات البسيطة.
أي هناك عملية تدمير صهيونية منهجية تستهدف الفلسطينيين من الناحية الاقتصادية أيضا، لا تقابلها أي استراتيجية فلسطينية رسمية مقاومة، إذا ما استثنينا عبارات القيادة التقليدية، من قبيل صمود الشعب الفلسطيني، ودعم صمود الشعب، فهي مجرد جمل مفرغة من أي مضمون حقيقي للأسف، بل يصح القول إن التوجهات الرسمية الفلسطينية تساهم في إضعاف مقومات الصمود الشعبي، وتسهل على الصهيونية تحقيق أهدافها شبه المعلنة وأحيانا المعلنة في تقويض الاقتصاد والوجود الفلسطيني، ولا سيما بعد توقيع اتفاق أوسلو واتفاقية باريس الاقتصادية، التي منحت الدولة الصهيونية إمكانية خنق مناطق السلطة الفلسطينية بكل يسر وسهولة، كما شهدنا نسبيا في الأشهر القليلة الماضية.
لكن وبعيداً عن عبارات المزاودة الفارغة، علينا تحليل ظروفنا الذاتية والموضوعية المتمثلة بغياب القطب العالمي التحرري الداعم لقضايا الشعوب بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وفي سيطرة قوة استعمارية عنصرية إحلالية على أرض فلسطين مدعومة من مجمل المنظومة العالمية، وفي توزع وتشتت الشعب داخل وخارج الوطن، وفي هزالة الجسم السياسي الفلسطيني وانفصاله عن الشعب الفلسطيني ومتاجرته بحقوقه التاريخية الشرعية، من أجل تبني رؤية اقتصادية متناسقة معها ومتدرجة في تناميها وتطورها وفق قدرتنا على تطوير العامل الذاتي وإنضاجه، لكنها بحدها الأدنى رؤية نضالية تسعى إلى مواجهة الواقع الذي يفرضه الاحتلال الصهيوني، تنطلق من جملة من المحددات الأساسية، أهمها طي صفحة التربح من القضية ومن العمل الوطني، عبر ضبط رواتب موظفي السلطة والمنظمة والفصائل ذوي المناصب العليا والقيادية من أصحاب الدخل المرتفع وسحب المميزات الخاصة بهم ذات الطابع المالي والخدمي، وتحرير المؤسسات الوطنية من هيمنة الفصائل والقوى السياسية عليها وتحويلها إلى مؤسسات مستقلة عن الجسم السياسي الفلسطيني ذات طابع تخصصي بحت، تدار من قبل مختصين مستقلين ومنتخبين من ذوي الاختصاص ذاته بغض النظر عن أماكن وجودهم، ما يساهم في تحويلها إلى دوائر منتجة ورافدة للعمل الوطني بدلا من واقعها الحالي القائم على المحسوبية والمحاصصة والتربح غير المباشر. ثم لا بد من العمل على تعزيز المشاريع الاقتصادية الفلسطينية الإنتاجية وغير الإنتاجية داخل وخارج فلسطين وفق القدرة والإمكانية البشرية والمالية، بغرض خلق فرص عمل نزيهة تستوعب العمالة الفلسطينية العاطلة من العمل، وتساهم في تسويق المنتجات الفلسطينية الأخرى المنتجة داخل فلسطين أو خارجها، وهو ما يعمل على خلق دورة اقتصادية فلسطينية معولمة، يمكن البناء عليها مستقبلا كي ترفد العمل الوطني ماليا بدلا من الاعتماد المفرط وشبه الوحيد على المساعدات والتمويل الخارجي، الممنوح من أطراف نعلم جيداً مدى دعمها وتوافقها مع المشروع الصهيوني، وبشرط أن لا يشكل هذا الدعم خطرا على استمرار المشاريع وضمان استمرار دورها في دعم وإنعاش أوضاع الفلسطينيين العاملين والمتعاملين معها. فهذه خطوات متاحة وغير خاضعة للسيطرة الصهيونية والدولية بشكل كامل، لكنها خطوات ضرورية لتمكين الشعب الفلسطيني من مواجهة مصاعب الحياة مستقبلا، والحد من الهيمنة الصهيونية والدولية على القرار الفلسطيني الرسمي. 
 

المساهمون