وقع ما كان "محتماً" قياساً على التطورات السياسية التي تلت استفتاء انفصال كردستان عن العراق في 25 سبتمبر/أيلول الماضي، بعد انتهاء المهلة التي حددتها بغداد لحكومة الإقليم، مساء الأحد، لسحب قوات البشمركة من كركوك، مدينة ومحافظة. ومع رفض الإقليم سحب قواته، بدأ الجيش العراقي مع مليشيا "الحشد الشعبي" تقدمه نحو كركوك، قبل الإعلان بعد ساعات طويلة من الاشتباكات المتقطعة والاتهامات بـ"الخيانة" داخل كردستان، عن سيطرة بغداد بالكامل على محافظة كركوك، في ظلّ توعّد البشمركة بردّ فعلٍ عسكري.
عند الساعة التاسعة من مساء الأحد، كان رئيس الجمهورية، فؤاد معصوم، في مكتبه ببغداد، يصوغ بنود مبادرة وُصفت بـ"الجديدة" لحلّ الأزمة بين بغداد وأربيل، بشكل سلمي من دون الحاجة لاستخدام القوة التي بدأ كلا الطرفين التلويح بها منذ أيام، رغم تسلّمه تأكيدات من رئيس الوزراء حيدر العبادي، نفى فيها أي نية لتقدم القوات العراقية اتجاه كركوك، إلا أنه في ذلك التوقيت تحديداً كانت قطعات الفرقة التاسعة بالجيش العراقي ووحدات التدخل السريع وجهاز مكافحة الإرهاب والشرطة الاتحادية والفرقة المدرعة الرابعة ومليشيات "الحشد الشعبي"، قد تسلّمت فعلاً أمر التحرك باتجاه كركوك، بعد اتفاق تاريخي شكّل صدمة للقيادة الكردية في أربيل تضاهي صدمة الهجوم على كركوك نفسها، وهو الاتفاق بين بافل الطالباني، نجل الرئيس السابق الراحل، جلال الطالباني، المُشرف على أكثر من 50 في المائة من قوات البشمركة في كركوك، مع هادي العامري قائد مليشيا "بدر" والقيادي في "الحشد الشعبي" برعاية قائد فيلق القدس الإيراني، قاسم سليماني، قضى بانسحاب البشمركة من مواقعها عند تقدم القوات العراقية ومن دون أي قتال. وهو الاتفاق الذي تم ضمن معسكر السليمانية، وتم إخطار الجانب الأميركي والتحالف الدولي بذلك، إثر زيارة سليماني إلى هناك في الأيام الماضية.
مسؤولون عسكريون وسياسيون في أربيل في صفوف الحزب الديمقراطي الكردستاني، بقيادة زعيم الإقليم، مسعود البارزاني، فضلاً عن قيادات سياسية في التحالف الوطني الحاكم بالعراق، أكدوا تلك التفاصيل لـ"العربي الجديد". وأشاروا بشكل متطابق وضمناً إلى وجود ضوء أخضر أميركي في تحرك بغداد، بعد تعهدها بأن العملية ستكون نظيفة وسريعة.
عملية الساعات التسع التي أنهت السيطرة الكردية على كركوك، لم تقتصر على المدينة فقط، إذ سيطرت القوات العراقية ومليشيات "الحشد الشعبي" على مناطق طوزخورماتو في صلاح الدين، وجلولاء وقره تبه في محافظة ديالى، فضلاً عن مدينتي تازة والدبس في كركوك ذاتها. ومن المتوقع لاحقاً تحرّك قوات الفرقة 16 وتشكيلات قتالية أخرى بينهم "الحشد الشعبي"، للسيطرة على مناطق في سهل نينوى شرق وشمال شرقي الموصل، وهي بغالبيتها مدن مسيحية تحت سيطرة "الحشد الشعبي"، وسبق أن اعتبرها البارزاني سابقاً من ضمن ما اصطلح عليه "حدود الدم لإقليم كردستان العراق". ومثّلت إجمالي المناطق التي انتزعتها بغداد من إقليم كردستان نحو 40 في المائة من مجموعة ما يعرف بالمناطق المتنازع عليها.
من جهته، ذكر قيادي بارز في التحالف الوطني الحاكم ببغداد لـ"العربي الجديد"، أن "العملية كانت نظيفة للغاية رغم وقوع بعض المعارك والاشتباكات الجانبية، مع انسحاب القوات الكردية التي تدين بالولاء للاتحاد الوطني من مواقعها المتقدمة بمحيط كركوك، وسهّلت توغّل القوات العراقية بعمق المدينة فضلاً عن المناطق الأخرى". وأضاف "نعم كان هناك اتفاق مع السليمانية فهم أكثر تعقلاً من مسعود البارزاني وإيران أدت دوراً إيجابياً في هذا الاتفاق". ولفت إلى أن "بغداد ستكتفي بممارسة سلطتها على تلك المناطق بلا طرد أو إقصاء، ولن تغير التركيبة الديموغرافية لها ونترك الحكم للدستور عبر المادة 140 منه".
دخول كركوك من المفترض ألا يغيّر الخارطة الجغرافية الداخلية بالعراق فحسب، بل خارطة التحالفات السياسية، خصوصاً أن الأحداث ضربت آخر مسمار في نعش التحالف بين الشيعية السياسية والأكراد بالعراق، المستمر منذ 14 عاماً، الذي سبق أن وصفه بعضهم من الجانبين بـ"الزواج الكاثوليكي". وتسببت عملية أمس، بهزة كبيرة في مكانة البارزاني، الذي بات متهماً من الشارع الكردي بأن مشروع الاستفتاء الذي أصرّ على تنفيذه تسبب في ضياع كركوك ومناطق أخرى، سبق أن تم استردادها بفاتورة دم عالية بلغت أكثر من 27 ألف قتيل وجريح من البشمركة، ما أثّر سلباً على علاقة الحزب الديموقراطي (البارزانيين) مع معسكر السليمانية، خصوصاً حزبي الاتحاد والتغيير. وهو ما ظهر في بيان حكومة كردستان ووزارة البشمركة، التي وصفت قيادات في الاتحاد الوطني بـ"الخونة والغادرين".
والأهم من ذلك كله، أن دخول كركوك، عُدّ نهاية قسرية لمشروع استفتاء الانفصال، إذ إن فقدان أربيل السيطرة على كركوك، يعني ضياع 80 في المائة من موارد النفط، التي كانت يحصل عليها الإقليم من بيعه النفط خلال السنوات الماضية، عبر حقول المدينة النفطية، البالغ عددها أربعة حقول منتجة من أصل ستة حقول تخللها آبار للغاز.
وهو ما ردت عليه المسؤولة المؤقتة عن حزب الاتحاد، هيرو إبراهيم، في بيان شديد اللهجة قالت فيه إن "الاتحاد الوطني سيبقى أميناً مدافعاً عن كركوك ويجب عدم الاستماع إلى من تسبب بهذه الأزمة". أما حزب التغيير، فدعا إلى "حلّ حكومة إقليم كردستان وتشكيل حكومة إنقاذ وطني واستقالة المسؤولين عما وصلت إليه الأمور في كردستان، خصوصاً كركوك"، في إشارة إلى البارزاني. بيان وزارة البشمركة من جانبه، أوضح أن "الهجوم على كركوك تم برعاية الحرس الثوري الإيراني، بقيادة الجنرال إقبال بور، وهو إعلان حرب"، مهددة العبادي بأنه "سيدفع الثمن باهظاً".
من جانبه قال رئيس لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي، حاكم الزاملي لـ"العربي الجديد"، إن "ما جرى هو عملية إعادة الأوضاع إلى طبيعتها قبل احتلال داعش للمدن العراقية عام 2014". وأضاف أنه "بعد كركوك هناك مناطق وبلدات أخرى في نينوى وديالى وصلاح الدين، سيتم بسط سلطات الحكومة الاتحادية عليها وهذا التحرك هو ضمن الدستور".
وأكد الزاملي أن "اليوم الثلاثاء سنشهد رفع العلم العراقي فوق مناطق أخرى تسيطر عليها قوات البارزاني ضمن ما يعرف بالمتنازع عليها من بينها مناطق الإخوة المسيحيين في سهل نينوى". وبيّن أن "القوات العراقية تتواجد في كركوك حالياً وستسلّم الملف الأمني لقوات الشرطة المحلية لإدارة المدينة".
وحول الاتفاق بين الطالبانيين والحكومة العراقية برعاية إيران قال إن "هناك اتفاق عقلاء جرى لتجنيب المدينة إراقة الدم والخراب والإخوة في البشمركة من جماعة الاتحاد أثبتوا حسن نواياهم وتركوا مواقعهم للقوات العراقية ونشكرهم على وطنيتهم. وما جرى من اشتباكات ومعارك كان مع البشمركة التابعين للبارزاني وتم معالجة الموقف معهم وكذلك مقاتلو حزب العمال الكردستاني الذين دخلوا المدينة بدعوة من حزب البارزاني". ولفت إلى أن "جميع مناطق كركوك بما فيها حقول النفط والمصافي وآبار الغاز باتت تحت سلطة بغداد".
وكانت العملية بدأت بتحرك واسع للقوات العراقية المشتركة من محوري الجنوب والجنوب الغربي، رافقتها مقاتلات ومروحيات تابعة للجيش، وتمكنت القوات العراقية من السيطرة على مناطق ملا عبد الله ومكتب خالد وقاعدة كي وان ومطار كركوك في وقت قياسي، بعد انسحاب قوات البشمركة من مواقعها وتسليمها بشكل رسمي للقوات العراقية.
وأشرف على عملية التسليم من الجانب الكردي اللواء رمضان بنكيني، أحد أبرز المقربين من الرئيس السابق الراحل جلال الطالباني، الذي أوكلت له مهمة تأمين كركوك منذ سنوات. واستقرت القوات العراقية نحو 40 دقيقة فقط لمنح الفرصة للقوات الكردية المنسحبة من الوصول إلى مناطق خارج كركوك، إلا أنه تم اعتراضها من قبل جماعات كردية وقوات البشمركة التابعة للبارزاني التي أطلقت النار عليها. وهو ما دفع القوات العراقية إلى التقدم بشكل سريع والدخول إلى أول أحياء كركوك من دون قتال، وسيطرت على أحياء الواسطي والصيادة وواحد حزيران وطريق بغداد، قبل أن تنتقل للأحياء الجنوبية والغربية خلال دقائق، وسط انهيار لقوات الأسايش والبشمركة التي انسحبت باتجاه أربيل.
وانحصرت الاشتباكات في مناطق رحيم أوه، معقل أكراد كركوك، إلا أنه سرعان ما تم حسمها بعد إعلان رفع العلم العراقي على مكتب محافظ كركوك المقال نجم الدين كريم. ووفقاً لمصادر طبية في مستشفى كركوك الجمهوري، فقد بلغ عدد القتلى والجرحى في عملية كركوك 69 قتيلاً وجريحاً، غالبيتهم من البشمركة، كما قضت عائلة من ستة أشخاص نتيجة سقوط قذيفة هاون على حي وسط كركوك مجهولة المصدر.
خلال ذلك قال عضو مجلس محافظة كركوك، محمد عبده، عن المكون العربي لـ"العربي الجديد"، إن "آلاف العائلات الكردية فرت من المدينة إلى أربيل رغم عدم تهديدها"، مبيّناً أنها "عائلات أفراد من البشمركة والأسايش التي كانت تعمل في إدارة الملف الأمني للمدينة".
وشوهدت مئات السيارات وهي تتكدس على مداخل أربيل والسليمانية قادمة من كركوك، غالبيتها عائلات كردية، سمحت لها سلطات أربيل بالدخول، بينما دعت منظمات إنسانية عبر مكبرات المساجد بإيوائهم لحين اتضاح الأمور.
وفي أول تعليق من قيادي بارز في حزب البارزاني على تطورات كركوك قال حمة أمين لـ"العربي الجديد"، إن "الحوار انتهى مع بغداد بشكل نهائي والخونة من حزب الاتحاد سيتم محاكمتهم في محاكم كردستان". وأضاف أن "سيطرة حكومة العبادي على كركوك بطريقة الغدر لا تعني أحقيتهم بها أو أنها انتزعت من الأكراد والإقليم سيدوّل القضية ولديه القوة لذلك". أما تركيا التي أعلنت سابقاً أنها ستسلّم إدارة معبر الخابور إلى القوات العراقية، فذكرت أنه "سقط لها جنديان في شمالي العراق (إقليم كردستان)".