يُعاني أهالي الضاحية الجنوبيّة للعاصمة اللبنانية بيروت من صعوبة الدخول إلى منازلهم لتفقدها أو إخراج لوازمهم الضروريّة، فالقصف الإسرائيليّ قد يطاول أنحاء المنطقة فجأة، ومن دون أي إنذارٍ، ما دفع الأهالي إلى الاستعانة بخدمات شبانٍ باتوا يمتهنون إفراغ المنازل والمحال التجارية من الأغراض مقابل بدلٍ ماليّ.
أكثر من شهر ونصف الشهر مرّ على نزوح أهالي الضاحية الجنوبيّة نحو مناطق أكثر أمناً، وقد خرج غالبيتهم يحملون حقائب صغيرة تضم ما أمكن من أغراض شخصية تكفيهم لبضعة أيام، ظناً أنهم سيعودون لاحقاً إلى منازلهم، لكن حدة ووتيرة القصف الإسرائيلي تضاعفت في الأيام الأخيرة، ما جعل الرجوع إلى تلك المنازل أمراً غاية في الخطورة.
ونتيجة تكرار القصف الإسرائيليّ المُباغت، استحدث العديد من الشبانٍ، خصوصاً العاطلين من العمل، مهنة تفريغ المنازل من الأغراض مقابل الحصول على مبلغ ماليّ، وبات الكثير من الأهالي يستعينون بهم لتنفيذ تلك المهمة، بالتزامن مع ارتفاع قيمة إيجارات الشقق السكنية في المناطق الآمنة نسبيًا، والتي تخطت بالنسبة لشقق مفروشة صغيرة ألف دولار أميركي شهرياً.
يملك الثلاثيني اللبناني علي محمود، منزلاً في منطقة صفير بالضاحية الجنوبيّة، وقد غادر مع عائلته المنطقة في العشرين من سبتمبر/أيلول الماضي، عقب اغتيال القيادي في حزب الله، إبراهيم عقيل ومجموعة من قيادات قوة الرضوان.
ويشرح لـ"العربي الجديد" ما حصل معهم قائلاً: "حين غادرنا المنطقة، رتبنا أغراضنا المهمة داخل حقيبة صغيرة تضم بعض اللوازم الشخصية وقطعا قليلة من الثياب. كنا نستهدف المكوث في بيروت لبضعة أيام ثم العودة مجدداً إلى البيت، فالاستهداف كان قريباً من منزلنا الكائن بالقرب من جامع القائم، وكانت رائحة البارود تفوح في أرجاء المنطقة، لكن الأمور تطورت فجأة خلال أيام قليلة، وبات من الصعب والخطر العودة إلى المنزل. حاولنا شراء بعض الاحتياجات من متاجر مدينة بيروت، لكننا كنا بحاجة إلى الكثير من الأغراض".
ويتابع: "لم أتمكن من دخول المنطقة، فهدير طائرات الاستطلاع لا يهدأ فوق المباني، وهذا أمر مقلق، ومعظم الأحياء السكنية تحولت إلى مناطق أشباح خالية من السكان، كما أن شبكة الاتصالات مقطوعة. لذا، تواصلت مع أحد هؤلاء الشبان الذين يمتهنون دخول المنازل لإفراغها مقابل بعض المال، وقد طلب مني 50 دولارا أميركيا مقابل تفريغ خزانتي من الثياب وإحضار بعض المستلزمات الضرورية، وفضلت دفع هذا المبلغ عوضاً عن شراء ثياب ومستلزمات جديدة ستكلفني أضعاف هذا المبلغ، وبعد اتفاقنا على المبلغ، انتظرته في منطقة الطيونة وأعطيته المفتاح، وبعد وصوله، رتب ثيابي ومستلزماتي في أكياس بلاستيكيّة، وغادر المنزل في غضون 20 دقيقة".
ويسيطر القلق على غالبية أصحاب الشقق السكنية والمتاجر في الضاحية الجنوبية، فيتجنبون التجول في المنطقة، أو دخول منازلهم خوفاً من أي صاروخ فُجائي قد يودي بحياتهم.
منذ بدء تصعيد العدوان الإسرائيلي في شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، طاول القصف العديد من مناطق الضاحية الجنوبيّة، ونشر المتحدث باسم جيش الاحتلال خرائط تضم عدداً من الأبنية في مختلف مناطق الضاحية، فأخلى السكان تلك المباني، وأقفلت المحال التجارية، وتوجه الناس نحو مدينة بيروت. لكن الغالبية لم يكن أمامهم متسع من الوقت لتفريغ منازلهم أو نقل البضائع من داخل المستودعات.
يقول حيدر غصن لـ"العربي الجديد": "يملك أحد أقاربي مستودعاً في منطقة (سانت تريز)، ومع ارتفاع وتيرة القصف على المنطقة، أراد تفريغ المستودع خشية خسارة البضائع، فعرضت عليه تنفيذ هذه المهمة، وبعد إتمامها كتب منشوراً على (فيسبوك) ليبلغ الزبائن بهذا الأمر، فتلقيت الكثير من الاتصالات من أشخاص يطلبون مني تفريغ منازلهم أو محالهم مقابل المال، وقد وافقت على القيام بهذا الأمر، خصوصاً أنني لا أملك حالياً أية وظيفة أو مصدر دخل".
يدخل غصن إلى الضاحية الجنوبيّة بشكل يومي لتفريغ مستودعات ومنازل تنفيذاً لطلبات زبائن، بينما يتولى أحد أفراد عائلته مهمة متابعة خرائط الاستهداف الإسرائيلي، ووفقًا لقوله: "لكل خدمة سعرها الخاص، فكلفة تفريغ مستودع من البضائع أغلى بكثير من كلفة تفريغ منزل من الأثاث. أستعين بمجموعة من الشبان لمساعدتي على ترتيب وحمل الأغراض، وندخل إلى المنطقة في الصباح الباكر، وننقل البضائع في شاحنة صغيرة، كما نقوم بتفريغ البضائع من المحال في جنوب لبنان".
وأظهرت هذه الحرب حاجة المواطنين لمقتنيات منازلهم، حتى اللوازم ذات القيمة المعنويّة، فهناك من يطلب تفريغ منزله من كل الأغراض. يقول حيدر غصن: "طلب مني أحد الأشخاص إخراج بيانو من منزله، وأحد الزبائن طلب مني دخول المنزل لإخراج صندوق صغير فيه صور فوتوغرافية للعائلة، وكذلك طلب أحد التجار تفريغ مستودع من بضائع تبلغ قيمتها نحو 300 ألف دولار أميركي، وفي كل يوم أستقبل أكثر من 40 اتصالاً من عائلات تريد نقل بضائع أو أثاث إلى مكان إقامتها الجديد، كما أن إحدى السيدات طلبت مني إخراج ثيابها الشتوية وبعض الحرامات من المنزل".
وتحمل هذه المهنة المستحدثة مخاطر عدة، خصوصاً في حال نشر خرائط فجأة، الأمر الذي يتطلب إخلاء المنطقة والابتعاد عنها فوراً.
يملك الشاب سعيد ضو شاحنة صغيرة، وهو يمتهن نقل البضائع من منطقة إلى أخرى منذ نحو ثلاث سنوات، ويشرح لـ"العربي الجديد"، طبيعة عمله خلال هذه الحرب، قائلاً: "حين توسعت الحرب، وشهدت مناطق عدة حالات نزوح كبيرة، تواصل معي مئات من الأشخاص الذين يريدون نقل أثاث منازلهم إلى مناطق أكثر أمناً، خوفاً من أن تدمر تلك المنازل بكل ما فيها من أغراض. ندخل إلى المنطقة في ساعات الصباح الباكر، ونخرج قبل الواحدة ظهراً، ونراقب حسابات الجيش الإسرائيلي على منصة (إكس)، وحين تنشر أي خريطة نغادر المنطقة بأقصى سرعة".
يتابع ضو: "مهمتنا خطيرة، وقد نتعرض للأذى في أي لحظة، لكننا نحاول اتخاذ تدابير الحيطة والحذر للمحافظة على حياتنا خلال نقلنا للأثاث أو تفريغ المحال من البضائع، ونعمل بطريقة أسرع من المُعتاد، ونحاول الحفاظ على البضائع والأغراض سليمة".
وارتفعت كلفة هذه الخدمات خلال الفترة الأخيرة لأسباب عدة أهمها حاجة الناس للوازمهم وبضائعهم، وأيضاً لكونها مهنة تشكل خطراً مباشراً على حياة الشبان الذين يقومون بها، والذين يمكن أن يصابوا خلال تنقلهم داخل شوارع وأحياء الضاحية الجنوبية.
ويؤكد حيدر غصن أن ارتفاع الأسعار بدأ بالتزامن مع نزوح أهالي جنوب لبنان نحو المناطق الآمنة. ويضيف: "في السابق كانت كلفة نقل البضائع نحو 40 دولارا أميركيا، لكنها صارت اليوم أضعاف ذلك، إذ يطلب كل عامل نحو 40 دولاراً ليوافق على المشاركة في مهمة نقل الأغراض. أفرغنا قبل فترة مستودعاً ضخماً في الضاحية الجنوبية، واستعنا خلال تلك العملية بالعديد من العمال، وكانت هناك 20 شاحنة للنقل، وأفرغت البضائع في مستودع آمن".
ويُعاني اللبنانيون من ضائقة ماليّة محتدمة منذ عام 2019، نتيجة الانهيار الاقتصادي، ما ساهم في بروز مهن جديدة، ثم ظهرت مهنة إفراغ المنازل مع بداية الحرب، ولاقت إقبالاً كبيراً من سكان المناطق المُستهدفة، على اعتبارٍ أن دفع بضع مئات من الدولارات مقابل نقل أثاث المنزل أو بضائع المتجر أو المستودع تظل خياراً أفضل من دفع آلاف الدولارات لشراء هذه المستلزمات مرة أخرى من الأسواق المحلية.
يملك الشاب محمد خالد صالوناً للحلاقة في مدينة بيروت، وعُرض عليه شراء مقاعد للحلاقة من صاحب محل في محيط منطقة الليلكي في الضاحية الجنوبية بأسعار جيدة، فصاحب المحل يريد بيعها خوفاً من تعرض المحل للقصف، وبالتالي خسارة كل ما بداخله، لكنه طلب منه الحضور بنفسه لاستلام المقاعد.
رفض محمد الاستلام الشخصي خشية التعرض للقصف، فعرض عليه أحد الشبان نقل المقاعد إلى بيروت مقابل بدل مالي. يقول لـ"العربي الجديد": "خلال ساعة واحدة تمكن الشاب من دخول المنطقة والوصول إلى المحل، ثم نقل المقاعد من الضاحية إلى بيروت، وذلك مقابل 40 دولارا أميركيا فقط".