استقبل مئات الآلاف من سكان قطاع غزة أول أيام الهدنة الإنسانية، التي بدأ سريانها صباح أمس الجمعة، بهدوء حذر لا يخلو من بعض الإحباط الناجم خصوصاً عن منعهم من العودة إلى مناطق شمال القطاع، لكنهم يؤكدون رغم ذلك أن الهدنة بمثابة متنفس مؤقت يستطيعون خلاله استجماع قواهم، والاطمئنان على ذويهم، وتأمين بعض احتياجات أطفالهم.
كان عدد كبير من سكان مناطق شمالي القطاع يريدون العودة إلى منازلهم لمعرفة ما حل بها، وجلب بعض الملابس أو الفرش والأغطية في ظل الأزمة الحادة داخل مناطق وسط وجنوبي قطاع غزة والاكتظاظ الحاصل فيها، والاطمئنان على مصير ذويهم المفقودين، لكن التحذيرات والتهديدات التي أصدرها الاحتلال دفعت معظمهم إلى التراجع، خصوصاً بعد إطلاق جيش الاحتلال الرصاص على القلة الذين قرروا المغامرة بالعودة إلى الشمال.
واستشهد اثنان من الغزيين الذين حاولوا العودة إلى الشمال، وأصيب 16 آخرون برصاص الاحتلال، فضلاً عن إصابة العشرات بالاختناق نتيجة إطلاق قنابل الغاز المسيل للدموع، حسب ما أكدت المصادر الطبية الفلسطينية، ونقل هؤلاء إلى مستشفى شهداء الأقصى في مدينة دير البلح بوسط القطاع.
وأسقط جيش الاحتلال مناشير عبر طائرة، قال فيها إن الحرب لم تنته، وإن الهدنة الإنسانية مؤقتة، ومنطقة شمالي قطاع غزة هي منطقة حرب خطيرة ممنوع التجول فيها، مطالباً الغزيين بالبقاء في جنوب قطاع غزة، وعدم التوجه إلى الشمال.
يتجول محمد المدهون (43 سنة)، في مدينة رفح، جنوبي القطاع، بحثاً عن الطعام لتأمين حاجة أسرته التي نزحت من شمالي القطاع قبل 20 يوماً، ويقول: "لم نتناول طعاماً جيداً منذ أسبوعين، وبعض الناس يبيعون المعلبات القليلة التي حصلوا عليها من المساعدات التي وزعت داخل المدارس من أجل شراء الحليب أو الأرز وغيرها من المستلزمات الغذائية لأطفالهم".
بعد نحو أربع ساعات من البحث، تمكن المدهون من شراء 12 علبة من الفول والحمص، ومعلبات أخرى من السردين والفطر وبضع زجاجات من الزيت، فعاد إلى المدرسة التي تقيم فيها عائلته الكبيرة، وعددهم نحو 40 فرداً. يضيف بسعادة: "استطعت شراء بعض الطعام، ليست كميات كبيرة، لكنها الكمية الأكبر التي نحصل عليها منذ أسبوعين. اليوم سنأكل جيداً. لقد نسينا الطعام الجيد منذ بداية عدوان الاحتلال".
خسرت عائلة المدهون العديد من الشهداء في مناطق شمالي قطاع غزة، من بينهم شقيقه الأصغر الذي كان عمره 24 سنة، والذي استشهد في سوق جباليا عند قصفه قبل نحو شهر، كما فقد أثر شقيقه الثاني الذي قرر البقاء في الشمال وعدم النزوح جنوباً، وهو لا يعلم عنه شيئاً منذ أكثر من أسبوع.
كان محمد يرغب في العودة إلى منزل العائلة لتفقد الأحوال، لكنه تراجع بعد تهديدات الاحتلال. يقول لـ"العربي الجديد": "نؤجل الحزن إلى ما بعد انتهاء العدوان والعودة لمنازلنا، فنحن من أكبر عائلات قطاع غزة عدداً، وفي كل يوم نتلقى أخباراً عن استشهاد أشخاص نعرفهم، لكن في هذه المرحلة نريد أن نؤمن أنفسنا وأطفالنا، ونوفر لهم ما يتيسر من الطعام والماء، ومحاولة إيجاد الملابس والفرش والأغطية".
واكتشف الفلسطينيون الذين تمكنوا من الوصول إلى مناطق شمالي القطاع حجم الدمار الهائل الذي خلفه القصف الجوي وعمليات التوغل البري الإسرائيلية، خصوصاً في مدينة غزة، حيث أحياء سكنية كاملة تضم مئات المباني وعشرات آلاف الوحدات السكنية مدمرة بشكل كلي، إضافة للدمار الهائل الذي لحق بالطرق وبمباني المؤسسات الحكومية والأهلية وبالبنية التحتية وشبكات المياه والكهرباء والاتصالات.
تمكن عماد البريم (40 سنة)، من العودة إلى منزله في بلدة بني سهيلا رغم تهديدات جيش الاحتلال لبلدات وقرى المناطق الشرقية. وجد عماد منزله مصاباً بأضرار بالغة، لكنه قرر المخاطرة بالدخول للحصول على بعض الأغطية والفرش التي كانت في غرف المنزل حتى يعود بها لأبنائه الموجودين في إحدى المدارس التي تحولت إلى مركز إيواء في وسط مدينة رفح.
كاد البريم أن لا يتعرف إلى الشارع الذي كان يقيم فيه لسنوات بسبب حجم الدمار الهائل، وصدم حين شاهد تشابه الشوارع من حيث الدمار وانتشار الركام. يقول: "عرفت بيتي من لون البناية والرسوم والكتابات الموجودة على الحوائط الخارجية، والتي كانت لتهاني عرس شقيقي الذي أقيم في بداية العام الحالي. كان معي أشخاص آخرون من سكان بلدات الحدود الشرقية، مثل خزاعة وعبسان الصغيرة، لكنهم لم يتمكنوا من دخولها كون آليات الاحتلال موجودة قريباً منها".
يضيف متحدثاً لـ"العربي الجديد": "بلدتي بني سهيلا قريبة من شارع صلاح الدين الفاصل بين غرب مدينة خانيونس وشرقها، وخاطرت بالذهاب لأني لا أملك شيئاً تقريباً، وتركت مالي في المنزل عند مغادرته، إذ كان القصف شديداً ودمر العديد من المنازل المحيطة. لم أتمكن من الوصول إلى الغرف الداخلية في المنزل، لكني تمكنت من الحصول على فرشتين وثلاثة أغطية، وهذا إنجاز كبير، على أمل أن تتواصل فترات الهدنة".
وتشير بيانات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) في قطاع غزة، إلى أن 1.037.000 نازح فلسطيني وصلوا إلى 156 منشأة تابعة للوكالة في محافظات قطاع غزة الخمس، ويقيم نحو 877 ألف نازح في 99 منشأة في وسط القطاع، مع تركز وجودهم في مدينة خانيونس التي أصبحت الأكثر كثافة في القطاع، ثم في مدينة رفح.
ويقول النازح من حي الشجاعية، شرقي مدينة غزة، معاوية أبو العطا: "لا أثق في أي اتفاق مع الاحتلال الإسرائيلي، وأشعر بتخوف كبير، فالاتفاقيات والمحادثات بين أطراف عربية ودولية لم توقف العدوان على مدار خمسين يوماً، ولم توقف قتل الأطفال. عشت تجربة النزوح في عدوان أغسطس/ آب 2014 لأيام قليلة، وحينها خرق الاحتلال الهدنة وأغار على مناطق عدة".
وتشجع عدد من أصحاب المتاجر على فتح محالهم بعد بدء سريان الهدنة وإتاحة البضائع للمواطنين الذين عانوا في الأيام السابقة من قلة الطعام. كان معظم أصحاب المحال غير قادرين على الوصول إلى متاجرهم بسبب شدة القصف، ومع توافد أخبار دخول المساعدات خلال الهدنة قرر بعضهم فتح متجره لمحاولة استغلال أيام الهدنة القليلة لكسب الرزق وتوفير حاجيات النازحين.
استطاع الخمسيني الفلسطيني إبراهيم قشطة الوصول إلى أحد مخازن متجره الواقع في شرقي مدينة رفح، صباح الجمعة، وإحضار بعض البضائع من أجل عرضها في المتجر. يقول لـ"العربي الجديد": "وجدت أضراراً جزئية في البضائع، وخراب البعض الآخر، فقمت بانتقاء الجيد منها ونقلتها عبر إحدى العربات التي يجرها حمار إلى المتجر الواقع في وسط مدينة رفح. الهدنة جيدة، لكنها ليست كافية. أنا محبط، لكني روح بشرية تريد العيش، ولديّ أبناء يريدون مواصلة العيش، واستكمال الدراسة في الجامعات والمدارس، وكل ذلك يتطلب كسب الرزق. شعرت بالجوع كثيراً خلال هذا العدوان، فضلاً عن شعور الخوف، إنها حرب إبادة وليست مجرد عدوان، وأتمنى أن تسفر الهدنة عن وقف إطلاق نار طويل".
ويقول مدير عام وزارة الصحة في غزة منير البرش إن الاحتلال الإسرائيلي قصف المستشفى الإندونيسي بعنف خلال الليلة الماضية، وهدمت دباباته وجرافاته السور والجدران، وجميع الشوارع المحيطة بالمستشفى دمرتها الدبابات الإسرائيلية. أما مجمع الشفاء الطبي، فإن قوات الاحتلال الإسرائيلي انسحبت منه، الجمعة، بعد نحو 10 أيام من اقتحامه وتدمير أجزاء مهمة فيه، منها مولدات الكهرباء وأجهزة طبية بينها مضخات الأوكسجين.