فرنسا أمام المجهول
وضعت الانتخابات التشريعية يوم الأحد الماضي فرنسا أمام وضع جديد لا شبيه له منذ أكثر من ستة عقود، فلأول مرّة منذ تأسيس الجمهورية الخامسة في عام 1958، تجد البلاد نفسها أمام المجهول. ممزّقة ومختلفة ومتصارعة، بلا قيادة أو أغلبية في الحكم والمعارضة. وضع غير مسبوق، ويفتح الأبواب على شتى الاحتمالات. وأول من يتحمّل مسؤولية في ذلك هو الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون الذي اتبع سياسة غير محسوبة النتائج، من وحي نصائح مستشاري المؤسسات المصرفية التي ينتمي إلى مجالها السياسي. وعمل، خلال ولايته الأولى، على تقويض ثنائية اليمين واليسار، التي استقرّت عليها فرنسا منذ ستة عقود، ووضع لنفسه هدف بناء مركز سياسي وسط يدور من حوله. وذهب بعيدا في هذه اللعبة، حتى تمكّن من تشتيت الحزبين الكبيرين، الاشتراكي واليمين الديغولي، اللذين شكلا قطبي التوازن تاريخيا، إلا أنه فشل في تكوين قوة وسطية تمكّنه من الحكم، ما وضع فرنسا أمام حالة من التشظّي السياسي، استفادت منها على نحو خاص القوى الهامشية في اليمين المتطرّف الذي بات يشكل أهم قوة سياسية متماسكة وموحدة.
من بين أبرز سمات المرحلة المقبلة أن رئيس الدولة سوف يكون ضعيفا، بعد أن خسر الأكثرية البرلمانية التي حازها في ولايته الأولى 350 نائبا، ولم يصل إلى العتبة المناسبة، وهي 289 نائبا. وفقد قرابة مائة نائب من رصيده، وهو ما شكّل صفعة هي الأكبر التي تلقاها رئيس فرنسي منذ ستة عقود. فهو، ببساطة، غير قادرٍ على الحكم بارتياح، وسيظل مقيّد اليدين خمس سنوات وأسير المراكز السياسية في اليمين واليسار، ولن يكون في وسعه تمرير مشاريعه الداخلية لجهة الإصلاحات التي كان يعتزم القيام بها في الولاية الثانية، وينسحب الأمر ذاته على السياسة الخارجية التي ستبقى خاضعةً للتوافقات الداخلية.
تجمّع اليسار برئاسة المرشّح الرئاسي السابق، جان كلود ميلانشون، والذي حلّ في المرتبة الثانية في الانتخابات التشريعية، هو الآخر بلا أكثرية، وفشل في الرهان على هذه المسألة، بعد أن منحته نتائج الدورة الأولى بعض الأمل في الحصول على أغلبية برلمانية تؤهله لفرض شروطه في التعايش على ماكرون من خلال رئاسة الحكومة، وهو سيناريو كان يثير ذعر ماكرون وأطراف اليمين، لكنه لم يعد مطروحا، بل إن التحالف بين حزب ميلانشون "فرنسا الأبية" والشيوعيين والخضر والاشتراكيين من غير المضمون أن يبقى موحّدا، يتخذ الموقف نفسه من القضايا كافة، ما قد يؤدّي إلى مزيد من التصدذع والتشرذم السياسي.
الرابح الأكبر في هذه الانتخابات هو اليمين المتطرّف بزعامة مارين لوبان، والذي حلّ في المرتبة الثالثة بالحصول على 89 نائبا، ما يشكّل صعودا صاروخيا يتجاوز وزنه المعهود بمعدل عشر مرات، حتى أن لوبان صرّحت بأن النتائج فاجأتهم، وكانوا يتوقعون الحصول على أقل من 50 مقعدا في أحسن الأحوال، وهذه هي المرّة الأولى في تاريخ فرنسا التي يصبح لليمين المتطرّف العنصري كتلة برلمانية هي الثالثة من حيث العدد، وتتّسم بأنها متجانسة وعلى لسان واحد، ويمكن أن تلعب دورا في إشاعة الفوضى في الحياة السياسية، ولكن الأخطر هو التطبيع مع اليمين المتطرّف من خلال البرلمان، وهذا سوف ينعكس في بقية المجالات السياسية والاجتماعية والأمنية، ومن شأنه أن يشيع أجواء متوتّرة تهدّد السلم الأهلي ويوجّه ضربة لأواصر التعايش. أما اليمين التقليدي فقد عادت له الروح نسبيا بأن حصل على عدد من النواب، يمكّنه من تشكيل مجموعة برلمانية، ولكنه يأتي من حيث الثقل خلف اليمين المتطرّف. وعدا ذلك، فهو غير موحد ومتجانس تتنازع أقطابه المصالح، بين من يشدّ البساط باتجاه ماكرون، أو في اتجاه اليمين المتطرّف.