الرهان على الأنظمة الاستبدادية العربيّة، التي تهيمن عليها برجوازيات شبه فاشيّة، وأخرى كمبرادوريّة، في الصراع الوجوديّ مع العدوّ الصهيوني، أثبت بالتجربة المريرة أنّه- في أحسن الأحوال- لن يقود إلى أيّ مكان. وحدها الشعوب هي حليفة الفلسطينيّين في معركة التخلّص من آثار النكبة المستمرّة منذ عام 1948، وتحقيق الإمكانيّة الواقعيّة للعودة والتحرير.
انطلاقا من هذه الحقيقة، فإن كارثة لا يمكن استبعادها قد تهدّد مستقبل القضيّة الفلسطينيّة، في حال نجحت بعض الأنظمة الإقليميّة والعربيّة في استقطاب فلسطينيّي الشتات، ولا سيّما في سوريّة ولبنان، لصالح أجندات لا تعبّر إلا عن التناقض الأساسي بين هذه الأنظمة وحركات شعوبها التحرّريّة.
علاوة على ذلك، فإن تناقضات الفصائل الفلسطينيّة، الناجمة عن التدخلات والحسابات الإقليميّة، وتنامي خطر التنظيمات الإرهابيّة داخل مخيّمات اللجوء، في ظلّ تجذّر الفقر والبؤس في هذه المخيّمات، بالتوازي مع استمرار المعاناة الناتجة عن حكم الطائفيّة، قد تجعل من "معاقل العودة" نقاط ضعف لضرب النضال التحرّري الفلسطيني في مقتل، وعزل النضال الوطني الفلسطيني عن إطاره الطبيعي المتمثّل في النضال الاجتماعي الشعبي العربي.
سوريّة الشعب
"الأسد.. أو نحرق البلد".. هذا الشعار الدموي الذي شهد العالم، بصمت فاضح، ترجمته على أرض الواقع في سوريّة، لم يتحقّق على أيدي "الغستابو الأسدي" فحسب، بل انضم إلى عناصر النظام أحد "الفصائل الفلسطينيّة"، الذي أسهم بشكل معلن في خلق جحيم المخيّمات، خاصّة مخيم اليرموك. حتّى بعض الفصائل، التي لم تشترك عسكريّا في معارك النظام ضدّ الشعب، لم تتردّد في إخفاء دعمها، غير المشروط، لتلك البرجوازيّة الفاشيّة، وذلك منذ بدايات الثورة السلميّة في سوريّة الشعب.
الشعب الفلسطيني في سوريّة عانى، ولا يزال يعاني، ظروف البؤس ذاتها التي اكتوى بها الشعب السوريّ. إذا ألقينا نظرة على واقع مخيّم اليرموك، مثلا، تخبرنا الإحصائيات الصادرة عن مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية، أن 1472 ضحية على الأقل من أبناء المخيّم قد فقدوا أرواحهم منذ بداية الثورة، وأن النظام السوري لا يزال يعتقل 253 شخصا، وأن 182 شخصا لا يزالون في عداد المفقودين، ناهيك عن أن 500 عائلة فقط عادت إلى ذلك المخيّم الذي هجّر منه 150 ألف شخص. هذا واقع مخيّم اليرموك وحده.. المخيّمات لم تكن في أي يوم من الأيّام "كانتونات فضائيّة" معزولة عن السياق الاجتماعي. الكلّ تجرّع نفس المرارة، سواء باسم "الممانعة" أو "الحرب على الإرهاب".. ذلك الإرهاب الذي ابتدأ من النظام نفسه، وامتدّ عبر ممارساته المستمرّة منذ عقود، ليتّخذ شكل الجماعات المسلّحة، التي أخرج النظام عناصرها من سجونه مع اندلاع الثورة، للمساعدة في صنع ثورته المضادّة.
اليوم.. وبعد نجاح الرجعيّة الرسميّة في سوريّة بـ "حرق البلد"، وتهجير الشعب، يعيش من لا يزال مقيما في مخيّمات اللجوء حالة حصار خانقة، وتفشٍ سرطاني لمختلف الأجهزة الأمنيّة، سواء المحليّة أو الإقليميّة، وتفاقم البؤس والفاقة إلى مستويات تجاوزت حالة الخطر بمراحل ماراثونيّة، الأمر الذي من شأنه أن يقود إلى تقويض، بل وتصفية الفعل الفلسطيني داخل الأراضي السوريّة، في حال لم تتم تصفية الوجود الفلسطيني المحض، وتهجير آخر من يمكن أن يصمد في تلك المخيّمات المغدورة.
لبنان وعودة تشرين
تصفية الفعل النضالي الفلسطيني، وإخراجه عن سياق محيطه الشعبي العربي، نكبة يفرض احتمالها الواقع اللبناني أكثر بكثير من نظيره السوري. في سوريّة كانت هناك مشاركة شعبيّة فلسطينيّة، رغم أنّها لم تكن بالغة التأثير، في الحراك الاجتماعي من أجل التحرّر. أمّا في لبنان، فقد فرض النظام الطائفي على الفلسطينيّين، منذ البداية، النأي بأنفسهم عن ثورة تشرين، التي كانت ردّا شعبيّا طبيعيّا على الواقع الذي خلقه زعماء الطوائف، وتزايد النفوذ الرسمي الإقليمي، سواء في لبنان، أو في سوريّة، أو العراق.
هذا الواقع، الذي يضع مصير لبنان في مهبّ كافّة الاحتمالات، لا يمكن إلا أن ينبئ بعودة هبّة تشرين بوصفها ثورة مستمرّة. لكن المشاركة الفلسطينيّة في أيّة حالة ثوريّة قادمة مسألة مستبعدة تماما، بسبب خصوصيّة الظرف الذي يعيشه اللاجئون في هذا البلد الخاضع لحكم الطائفيّة، التي ولّدت عنصريّة قاتلة، سواء ضدّ الوجود الفلسطيني، أو الوجود السوري في مخيّمات اللجوء. على أية حال، لا يجدر تجاهل أن نسبة الفقر والبطالة وسط اللاجئين الفلسطينيّين في لبنان تتجاوز الـ 90%، كما أن وكالة الغوث "الأنروا" ترفض زيادة عدد المستفيدين من برنامج الشؤون الاجتماعية منذ عام 2017، رغم تفاقم الأزمة الماليّة والاقتصاديّة في البلاد خلال السنوات الأخيرة. كما تفيد إحصائيات للجامعة الأميركية في بيروت، بأن 72% من الأسر الفلسطينية في لبنان تعاني من إصابة أحد أفرادها بمرض مزمن، بينما تبلغ نسبة الإعاقة، وفقا لـ "الأنروا"، 15%. أضف إلى ذلك، استمرار منع اللاجئين من العمل، واستمرار محاصرة المخيّمات بالكتل الإسمنتيّة.
لكن الخطر الحقيقي لا يقتصر على شلّ الفعل الفلسطيني في مخيّمات اللجوء، بل يتجاوزه إلى محاولات استقطاب المخيّمات لصالح أحد المحاور الإقليميّة المتنازعة، والتي ستتفاقم الحرب فيما بينها دون أدنى شك، فور تحوّل الهبّات الجماهيريّة إلى ثورة بالمعنى الكامل للمفردة. حالة البؤس المدقع التي يعيشها اللاجئون الفلسطينيّون والسوريّون على الأراضي اللبنانيّة، ستجعل منهم فريسة سهلة للغاية أمام أيّة محاولات استقطاب إرهابيّة، سواء أكانت محاولات تنظيميّة أو رسميّة عربيّة وإقليميّة.
آفاق المرحلة؟
بين تنامي احتمالات تصفية الوجود الفلسطيني، عبر تهجير اللاجئين من مخيّمات سوريّة ولبنان، أو استقطاب هذه المخيّمات لصالح إحدى القوى الإقليميّة المتنازعة، أو تحويلها إلى ساحات دمويّة نتيجة تفاقم البؤس، لا يمكن الخروج بتوقّعات متفائلة، خاصّة في ظلّ غياب أي جسم تنظيميّ ثوريّ، بالمعنى الحقيقيّ للتسمية، قادر على توحيد الشعب الفلسطيني في نضاله المستمرّ، والذي لا يمكن فصله عن النضال التحرّري للشعوب العربيّة.
الخلاص بالنسبة لكافّة شعوب المنطقة، ومن بينها الشعب الفلسطيني، لا يمكن تخيّله إلا عبر النضال المشترك، في مواجهة الصهيونيّة والرجعيّة على حدّ سواء. تلازم النضال من أجل تحرير فلسطين، والشعوب العربيّة، بات يشكّل اليوم ضرورة، أكثر من أيّ وقت مضى، خاصّة في ظلّ التحالف الاستراتيجي الذي تقيمه بعض الأنظمة مع المشروع الصهيوني في إطار عمليّة التطبيع.
الحلّ لا يمكن أن يكون خارج إطار النضال من أجل خلق بدائل شعبيّة، ولجان ثوريّة قادرة على قيادة الصيرورة الكفاحيّة بشكل مستقلّ تماما عن كافّة القيادات البرجوازيّة. إلا أن استمرار "الرهان" على خطاب "الممانعة"، أو الارتماء الأعمى في أجندات فصيل، أو طائفة، أو جماعة مرتبطة بأيّ نظام إقليميّ أو دوليّ، فلن يقود المنطقة إلا نحو المزيد من الكوارث والويلات. ولا يمكن تجاهل حقيقة أن الظرف الموضوعي يشي بقدوم المرحلة التالية من الثورات العربيّة، نظرا لاستمرار الظروف التي أنتجتها أساسا قبل عشر سنوات، بصرف النظر عن نضوج العامل الذاتيّ المتعلّق بالتنظيم من عدمه. أمّا استسلام البعض لفرضيّة نجاح الثورة المضادّة في الاستمرار إلى الأبد، فلا يزال يثبت عدميّته عاما تلو الآخر.. الشعوب التي رفعت شعار الخبز والحريّة لن تنسى، وأي عمل ثوريّ فيما يتعلّق بالقضيّة الفلسطينيّة لا يمكن أن يكون ثوريّا حقّا خارج سياق الثورة الدائمة من أجل تحرير كافّة الشعوب!