تختلف الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي تجري دورتها الأولى اليوم الأحد عن سابقاتها منذ تأسيس الجمهورية الفرنسية الخامسة من قبل الجنرال شارل ديغول عام 1958. فهي المرة الأولى منذ ستين سنة التي يتشكل فيها مشهدٌ سياسي خارج الثنائية التقليدية التي كان يتنافس فيها تياران عريضان، اليمين التقليدي والاشتراكي.
"فرنسا لم تعد فرنسا، انظروا من بات يتنافس على الرئاسة فيها. إلى سنوات خلت كانت البلاد تزخر برجال السياسة الذين كنا نحتار للاختيار من بينهم لما يتحلون به من خصال حميدة. أما اليوم فلا نكاد نعثر على خصلة حميدة لدى واحد من المرشحين الأربعة الذين يتصدرون المشهد". هذا التصريح الصادم جاء على لسان رجل فرنسي، يُعبّر عن نحو 40 في المائة من الناخبين الفرنسيين الذين صنّفتهم استطلاعات الرأي بـ"المترددين" عشية الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية التي ستجري اليوم.
ولا تُعد ظاهرة المترددين جديدة في الانتخابات الرئاسية الفرنسية، وهي ترافق كل حدث من هذا القبيل، ولكنها حين تصل إلى هذه النسبة العالية فإنها تصبح جديرة بالدراسة. وكما أشار محدثنا الستيني الذي التقيناه وهو يخرج من مكتب البريد الذي قصده لتسلم بطاقته الانتخابية، فإن منبع التردد يختلف اليوم عن السابق. سابقاً كانت النوعية واليوم الرداءة التي بدأت مع عهد الرئيس السابق نيكولا ساركوزي. في الدورات السابقة كانت شروط التنافس أكثر وضوحاً والبرامج أكثر تعبيراً عن هموم الناس، والشخصيات المرشحة سبق لها أن جربت العمل السياسي والحكم لزمن طويل، ثم إن الحدود كانت واضحة بين اليمين واليسار، ولكنها اليوم متداخلة إلى حد اختلاط الرؤية.
صورة جديدة
تبقى من انتخابات فرنسا محطاتٌ يتذكرها الفرنسيون كلما اقترب هذا الاستحقاق، منافسات حادة وشخصيات على قدر كبير من الحضور، مثل المنافسة الشهيرة التي جرت عام 1981 بين فاليري جيسكار ديستان وفرانسوا ميتران، وقد خطف فيها ميتران كرسي الإليزيه وحرم ديستان من الجلوس عليه لولاية ثانية. وهناك منافسة ثانية لا تقل تشويقاً، تلك التي حصلت بين ميتران وجاك شيراك عام 1988، وفاز فيها ميتران بولاية ثانية، ولكن شيراك دخل الإليزيه عام 1995 ليمضي ولايتين، تنافس في الثانية مع زعيم اليمين المتطرف حينذاك جان ماري لوبان، وفاز عليه على نحو ساحق بعد أن استنفرت القوى السياسية مجتمعة لبناء سد ضد وصول اليمين المتطرف.
صحيح أن فرنسا تغيرت وفق ما شهده العالم من تحوّلات سريعة في الألفية الثانية، ودخل جيل جديد الحياة السياسية، ولكنها ابتعدت كثيراً عن تقاليدها في العمل السياسي التي تعلمت منها البشرية، وباتت اليوم أمام طريق صعب لا أحد يعرف إلى أين سيفضي بعد الانتخابات الرئاسية. ومهما كانت النتائج فإن الصورة تبدو سوداء، وتبعث على التشاؤم، ومرد ذلك إلى أن البلد يغرق في الشعبوية الآتية من اليمين واليسار، وهو مرشح لأن يدخل مرحلة جديدة ليس في وسع أحد أن يتنبأ بمآلاتها، بغض النظر عن الفائز في الجولة الثانية التي تجري في السابع من الشهر المقبل.
منافسة محتدمة
آخر استطلاع رأيٍ أعطى أربعة مرشحين حظوظاً متقاربة في الدورة الأولى، وهم إيمانويل ماكرون، وزير الاقتصاد السابق الذي انتمى لفترة وجيزة للحزب الاشتراكي، وأعلن قبل عام عن تأسيس حركته "إلى الأمام"، وكان واضحاً أنه قرر خوض السباق الرئاسي، ولذا استقال لاحقاً من الحكومة. وإلى فترة قريبة كان يُعتبر المرشح الأوفر حظاً للوصول إلى الإليزيه، وهذه مفارقة يصعب فك ألغازها، إذ لا يمكن تفسير الشعبية الكبيرة التي حظي بها خلال فترة قصيرة، في حين أنه لا يوجد في سجله الخاص ما يرفعه إلى هذه المكانة. ومعنى ذلك أن السبب الفعلي لانجذاب قطاع واسع من الرأي العام له لا يمكن تبريره من الناحية المنطقية، إلا من خلال لوبيات المال المؤثرة على الإعلام.
المرشحة الثانية صاحبة الحظ بالتأهل إلى الجولة الثانية، هي مارين لوبان، التي انتزعت حزب "الجبهة الوطنية" من والدها جان ماري لوبان، والذي بناه منذ أواخر السبعينات على أساس العداء للمهاجرين. وعلى الرغم من أنه شكّل حوله تياراً واسعاً، لكنه لم يتمكن من إحداث اختراق فعلي في الحياة السياسية الفرنسية، وبقي على الهامش، لأن اليمين التقليدي في العقد الأخير تمكّن من سحب البساط من تحت أقدامه، حين تبنى ساركوزي شعاراته وبرامجه الخاصة بالهجرة، والتحق سرب من تيار لوبان بساركوزي.
سارت مارين لوبان على طريق مختلف عن طريق والدها، وخاطبت أجيالاً جديدة من الفرنسيين غير التي ظل والدها يعتمد عليها من أجل الوصول إلى الحكم، وصارت تلعب على أوتار محاربة الإرهاب والإسلاموفوبيا، والعواطف الشعبوية المعادية للوحدة الأوروبية. وبذلك شقت لنفسها طريقاً خاصاً يمثّل حسب استطلاعات الرأي أكثر من 20 في المائة من الناخبين الفرنسيين، وهذا يعني أن حظوظها كبيرة في تجاوز عتبة الدورة الأولى كي تتأهل للدورة الثانية على غرار والدها عام 2002، والذي خسر أمام شيراك.
الثالث على قائمة التنافس هو مرشح اليمين التقليدي فرانسوا فيون، الذي كان يحظى بأعلى رصيد في استطلاعات الرأي قبل أن تتفجر في طريقه فضائح الفساد، التي كادت تبعده من السباق إلى الإليزيه. وعلى الرغم من أنه استعاد بعض رصيده في الأيام الأخيرة، إلا أن صعوده للدورة الثانية بالطرق العادية يبدو بعيد المنال، ولن ينقذه سوى حصول عملية إرهابية، على حد وصف بعض المراقبين.
صاحب الحظ الرابع في الصعود إلى الدورة الثانية هو جان لوك ميلانشون، الذي تقدّم في الأسبوعين الأخيرين على نحو مثير للانتباه، ليكسب في استطلاعات الرأي قرابة 10 نقاط، وصار بذلك على قدم المساواة مع ماكرون ولوبان، إلى حد أن بعض الخبراء أعطوه أفضلية على ماكرون، ووضعوه في منافسة لوبان في الدورة الثانية.
يوصف ميلانشون بأنه ممثل اليسار الشعبوي، ودرج هو على الاستيحاء من تجربة يسار أميركا اللاتينية، وخصوصاً الرئيس الفنزويلي الراحل هوغو تشافيز والبوليفي إيفو موراليس، الأمر الذي جعل خصومه يعتبرونه بعيداً عن الواقع الفرنسي، وخصوصاً في السياسة الخارجية. وهو يلتقي تماماً مع مارين لوبان في تأييد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سورية، وتفهُم وعدم إدانة جرائم رئيس النظام السوري بشار الأسد، وهو ما نفاه كلياً في الأسبوع الأخير. وقد كان مستغرباً من هذا الرجل تأييد بوتين والأسد، كونه ذا خلفية "عالم ثالثية" وتربية نضالية يسارية، فهو مولود في طنجة المغربية عام 1951 وسبق له أن كان قيادياً في الحزب الاشتراكي وتولى مواقع وزارية في حكومات قادها الحزب، وخصوصاً مع ليونيل جوسبان. غادر الاشتراكي عام 2008 ليؤسس "حزب اليسار" الذي بات زعيمه، ولفت الانتباه بحصوله على الموقع الرابع في الانتخابات الرئاسية السابقة في عام 2012 بنسبة 11 في المائة.
بشّر ميلانشون بولادة جمهورية سادسة، وحدد البداية إلى ذلك بتعديل الدستور من أجل انتخاب برلمان جديد مغاير للبرلمانات السابقة، وبذلك فهو يطمح إلى تغيير القواعد كافة. وعلى الرغم من أن هذا الطموح مشروع، فإنه ليس بالسهل، وهنا تكمن العقدة الرئيسية في المرحلة المقبلة، ذلك أن فرنسا تداول على حكمها في ظل الجمهورية الخامسة اليمين التقليدي الذي دار في فلك ديغول، والتيار الاشتراكي، وهذه القاعدة ليست في وارد الاهتزاز في صورة جذرية، وبالتالي فإن فوز أي من المتنافسين الثلاثة (لوبان، ماكرون، ميلانشون) يُستبعد أن يرافقه الحصول على أغلبية برلمانية تقود إلى تشكيل حكومة أكثرية. ومن المرجح أن يكون الرئيس من لون والبرلمان والحكومة من ألوان أخرى، وهذا يُترجم إلى ولاية رئاسية من خمس سنوات تتسم بالضعف في أحسن الأحوال.