لم تمل الشعوب العربية من الاحتجاج، رغم تحذيرات أغلبها صادرة من الثورة المضادة، ووسائل دعائية متنوعة تحركها مصالحها، تتبنى أغلبها خطابا حول إخفاقات الثورات والانتفاضات العربية، وتحذيرات من الاحتجاجات بوصفها تكسر الدول وتهدمها، وتشيع الفوضى وتعطل عجلة الإنتاج وتقوض أمن البلاد.
تطرح تلك القوى بدائل، في أحسن صورها أن الحوار من أجل إصلاح النظم من داخلها، خير من الاحتجاج عليها، وكأن الشعوب لم ينفد صبرها من الانتظار، وكأن السلطات الحاكمة كانت لا تسمعها من قبل وهي تصرخ من ثنائية قسوة المعيشة وصنوف الاستبداد.
الموجة الجديدة من الاحتجاجات العربية الأخيرة، تطالب بإصلاحات اجتماعية، وتغيير السياسات الاقتصادية، لذا ترفع مطالب بتوفير سبل العيش بكرامة، وفرص عمل، ورفض الغلاء، وتتمظهر سياسا في كثيرا منها بشعارات تنادي بنظام وسياسات جديدة.
أدركت الشعوب بخبرتها أن الخلاص من الأزمات المتشابكة لن يتم الا بتغيير حقيقي، يمثل قطيعة مع سياسات النظم التي أفقرتها وجوعتها، ونهبت عرق جبينها وأهدرت مواردها، وقسمت الأوطان أو رهنتها لإرادة غير إرادة شعوبها.
احتجاجات متنوعة في لبنان والمغرب والعراق والأردن، وأخيرا السودان، والأخيرة صاحبة التجربة الثورية العريقة، وأول انتفاضة ديمقراطية شعبية بالوطن العربي (أكتوبر/ تشرين الأول 1968).
اقــرأ أيضاً
عاد السودان للانتفاض، ليكمل سلسلة نضالاته ضد أنظمة الحكم المفقر المستبد، عبود والنميري والبشير، ارتفع صوت الناس، معلنا حلقة جديدة من الحراك من أجل العيش بكرامة، وتحقيق قدر من العدالة. ينتفض الشارع ضد الجوع والقهر، وهما يمثلان إفرازات طبيعية للنظم الديكتاتورية. لا تختلف انتفاضة السودان اليوم عما سبقها من انتفاضات ضد نظم ارتدت ثوبا عسكريا أو دينيا، أو تحالف للفريقين معا.
مؤشرات الأزمة الاقتصادية
كل المؤشرات الاقتصادية تدعو للانتفاضة، فبعد سلسلة من إجراءات الإصلاح الاقتصادي بدأت بتعاون مع المؤسسات الدولية منذ بداية الستينيات، لم يعد الاقتصاد قادرا على توليد فرص عمل جديدة، خاصة مع تراجع عوائد النشاط الزراعي، وانفصال جنوب السودان عام 2011، وما خلفه من خسارة عوائد (470 ألف برميل نفط يوميا).
كانت الارتفاعات المتتالية في أسعار السلع، خاصة الغذائية منها، سببا في تعميق الأزمة المعيشية للمواطنين. لم تستطع الدولة تفكيك الأزمة، وخاصة أنها وصلت لحد العجز عن توفير الخبز وارتفاع سعره 300% خلال ديسمبر/ كانون الأول 2018، وهو من نتائج إخفاق الإنتاج الزراعي في توفير المحاصيل، رغم ثروات السودان الضخمة من المياه والأرض والأيدي العاملة.
اقــرأ أيضاً
ومع هذا التدهور الاقتصادي لم يكن غريبا تراجع الخدمات وزيادة أسعارها. وتشير بيانات دولية إلى ارتفاع نسب التسرب التعليمي: يكمل 59% من التلاميذ فقط تعليمهم في المرحلة الابتدائية، وتصل نسب وفيات الأطفال بعمر أقل من خمس سنوات إلى النصف تقريبا، حسب بيانات البنك الدولي (2017)، ما يؤشر إلى ارتفاع تكاليف خدمات الصحة والتعليم وسوئها.
وتراجعت الاستثمارات الخارجية ما بين 2015/ 2017.
بينما زاد الإنفاق العسكري من 2.4 مليار دولار عام 2015 إلى 3.2 مليارات عام 2017، وزادت واردات السلع بنسب لا تلبي حجم الطلب عليها في ظل تراجع إنتاجها. كل هذه الأوضاع دفعت معدلات الهجرة للارتفاع خلال الفترة نفسها لتصل إلى 250%.
تفاقم أزمة الديون
خلال 2006 افتتح البنك الدولي فرعا في السودان لإدارة صندوق المانحين الذي أنشئ لدعم إعادة الإعمار في مناطق الحرب ضد الحركات المعارضة، ومنذ هذه الفترة والديون في ارتفاع، وفشلت مباحثات السودان مع الدائنين في حل الأزمة، وما زال السودان يصنف ضمن الشريحة الدنيا من البلدان متوسطة الدخل، التي تعاني من تفاقم الديون، فهناك 40 مليون نسمة يعانون من مشكلات خدمات الصحة والتعليم وارتفاع نسب البطالة والتهميش الاقتصادي.
بجانب الأزمة الاقتصادية الهيكلية، المتمثلة في ضعف الإنتاج الحقيقي، وعدم القدرة على توفير فرص عمل، واجه السودان أزمة مالية، أبرز مظاهرها شح السيولة النقدية، التي ترتبط بأزمة الاقتصاد أساسا، وتراجع القطاعات الإنتاجية وضعف الاستثمارات، بالإضافة إلى تواضع مساهمة ما يزيد عن 5 ملايين مغترب في ضخ سيولة مالية، يقدرها البعض بـ5 مليارات دولار.
ومع تراكم الديون الخارجية التي قدرت خلال إبريل/ نيسان 2018 بـ54 مليار دولار (166% من الناتج المحلي)، زادت الأزمة الاقتصادية بشكل أعمق، خاصة مع تراكم فوائد الديون مستحقة السداد، ولم تنجح مفاوضات السودان مع الدائنين خلال النصف الأول من 2018 في إيجاد طرق لتخفيف الأزمة، بجانب الفساد المستشري نتاج فترة حكم طويلة سادها الاستبداد والقمع، فغابت الشفافية والمحاسبة، وهي الحالة الفضلى لبروز الفساد، وما يشكله من أداة لنهب الموارد من أراض وأموال.
خريطة الاحتجاجات
تحمل مناطق الاحتجاجات مؤشرات جغرافية للغضب، وتعبر عن سمات اقتصادية لطبقات شعبية مأزومة، أغلبها من أطراف المدن، من فقرائها تحديدا، الذين يعيشون في ظروف عمل تتسم بالهشاشة، وضعف الدخل، أو البطالة.
بجانب كتل من الفاعلين في المراكز السياسية، أتت انتفاضة السودانيين أخيرا من الأطراف، لتدل على عمق الأزمة وأساسها الاقتصادي، فمن عطبرة وشمال كردفان الرهد إلى أرض الجزيرة النيل الأبيض وصولا إلى أطراف العاصمة الخرطوم، القضارف وبورت سودان، لتصل الاحتجاجات إلى سبع مناطق تفيض بالفقراء المحتجين على بؤس المعيشة والاستبداد، يهتفون "مساواة حرية عدالة" والثورة خيار الشعب، كما هتفوا من قبل في انتفاضة 2013.
أشكال القهر
أتت الانتفاضة نتاج تراكمات من أشكال القهر المتنوع. اجتماعيا، يتمثل في ما نرى من ضيق في سبل العيش، بداية من توفير الخبز وليس انتهاء بخدمات الصحة والنقل والتعليم.
فالمشاركون بالانتفاضة يشعرون بالغبن من ارتفاع الأسعار، ومنهم من يشعر بالعجز عن توفير الحد الضروري من السلع التي توقف الإحساس المهين بالجوع، والبطالة.
وسياسيا، هناك شعور بالمهانة في ظل استئجار الجيش في حرب بالوكالة في اليمن تحت مظلة التحالف العربي، وهناك انتهاكات ومناطق حروب داخليا وتمزق. وثقافيا، هناك شعورا بالتمييز بين السودانيين، بعدما تم تقسيم الشعب مرتين، مرة إلى جنوب وشمال، ومرة إلى عرب وغير عرب، وهناك قهر اجتماعي وثقافي وأمني يضرب بعض مناطق الأطراف، بوصفها متمردة، ولم يبذل النظام جهدا في فهم لماذا تتمرد، ولماذا تفشل الوساطات الدولية لحل مشكلاتها.
شعور بالغبن في مناطق جبال كردفان، ودارفور، وغيرها من المناطق، ساهم في اندلاع الانتفاضة. أضف إلى ذلك، ثارت ملايين من الأسر التي هجر أبناؤها نتاج سياسات النظام.
شعب السودان الذي قدم أضخم تضحيات لشعب عربي، ربما لا يكمل انتفاضته أو يحسمها، ولكنه في الحقيقة لن يهزم ولا يمل من المقاومة لتغيير أوضاعه، كغيره من شعوب أخرى.
فلا سبيل للناس للعيش في ظل قسوة كل هذه الظروف دون أن يصرخوا، ويحتجوا، ويحلموا بعالم مغاير، أساسه خيارات اقتصادية جديدة، وتوفير سبل الحياة.
الموجة الجديدة من الاحتجاجات العربية الأخيرة، تطالب بإصلاحات اجتماعية، وتغيير السياسات الاقتصادية، لذا ترفع مطالب بتوفير سبل العيش بكرامة، وفرص عمل، ورفض الغلاء، وتتمظهر سياسا في كثيرا منها بشعارات تنادي بنظام وسياسات جديدة.
أدركت الشعوب بخبرتها أن الخلاص من الأزمات المتشابكة لن يتم الا بتغيير حقيقي، يمثل قطيعة مع سياسات النظم التي أفقرتها وجوعتها، ونهبت عرق جبينها وأهدرت مواردها، وقسمت الأوطان أو رهنتها لإرادة غير إرادة شعوبها.
احتجاجات متنوعة في لبنان والمغرب والعراق والأردن، وأخيرا السودان، والأخيرة صاحبة التجربة الثورية العريقة، وأول انتفاضة ديمقراطية شعبية بالوطن العربي (أكتوبر/ تشرين الأول 1968).
عاد السودان للانتفاض، ليكمل سلسلة نضالاته ضد أنظمة الحكم المفقر المستبد، عبود والنميري والبشير، ارتفع صوت الناس، معلنا حلقة جديدة من الحراك من أجل العيش بكرامة، وتحقيق قدر من العدالة. ينتفض الشارع ضد الجوع والقهر، وهما يمثلان إفرازات طبيعية للنظم الديكتاتورية. لا تختلف انتفاضة السودان اليوم عما سبقها من انتفاضات ضد نظم ارتدت ثوبا عسكريا أو دينيا، أو تحالف للفريقين معا.
مؤشرات الأزمة الاقتصادية
كل المؤشرات الاقتصادية تدعو للانتفاضة، فبعد سلسلة من إجراءات الإصلاح الاقتصادي بدأت بتعاون مع المؤسسات الدولية منذ بداية الستينيات، لم يعد الاقتصاد قادرا على توليد فرص عمل جديدة، خاصة مع تراجع عوائد النشاط الزراعي، وانفصال جنوب السودان عام 2011، وما خلفه من خسارة عوائد (470 ألف برميل نفط يوميا).
كانت الارتفاعات المتتالية في أسعار السلع، خاصة الغذائية منها، سببا في تعميق الأزمة المعيشية للمواطنين. لم تستطع الدولة تفكيك الأزمة، وخاصة أنها وصلت لحد العجز عن توفير الخبز وارتفاع سعره 300% خلال ديسمبر/ كانون الأول 2018، وهو من نتائج إخفاق الإنتاج الزراعي في توفير المحاصيل، رغم ثروات السودان الضخمة من المياه والأرض والأيدي العاملة.
وشكل شح السيولة النقدية أزمة كبرى، خاصة في ما يتعلق بتوفير حصيلة فاتورة الاستيراد التي تزيد عاما بعد الآخر. ومع ارتفاع نسب التضخم التي وصلت إلى 69%، وانخفاض قيمة الجنيه مقابل الدولار، تراجعت القوة الشرائية للمواطنين، فحدثت أزمة في السوق نتاج الركود التضخمي، ما أثر على فئات وسطى لم تعد مهتمة بمسألة الاستقرار.
ومع هذا التدهور الاقتصادي لم يكن غريبا تراجع الخدمات وزيادة أسعارها. وتشير بيانات دولية إلى ارتفاع نسب التسرب التعليمي: يكمل 59% من التلاميذ فقط تعليمهم في المرحلة الابتدائية، وتصل نسب وفيات الأطفال بعمر أقل من خمس سنوات إلى النصف تقريبا، حسب بيانات البنك الدولي (2017)، ما يؤشر إلى ارتفاع تكاليف خدمات الصحة والتعليم وسوئها.
وتراجعت الاستثمارات الخارجية ما بين 2015/ 2017.
بينما زاد الإنفاق العسكري من 2.4 مليار دولار عام 2015 إلى 3.2 مليارات عام 2017، وزادت واردات السلع بنسب لا تلبي حجم الطلب عليها في ظل تراجع إنتاجها. كل هذه الأوضاع دفعت معدلات الهجرة للارتفاع خلال الفترة نفسها لتصل إلى 250%.
تفاقم أزمة الديون
خلال 2006 افتتح البنك الدولي فرعا في السودان لإدارة صندوق المانحين الذي أنشئ لدعم إعادة الإعمار في مناطق الحرب ضد الحركات المعارضة، ومنذ هذه الفترة والديون في ارتفاع، وفشلت مباحثات السودان مع الدائنين في حل الأزمة، وما زال السودان يصنف ضمن الشريحة الدنيا من البلدان متوسطة الدخل، التي تعاني من تفاقم الديون، فهناك 40 مليون نسمة يعانون من مشكلات خدمات الصحة والتعليم وارتفاع نسب البطالة والتهميش الاقتصادي.
بجانب الأزمة الاقتصادية الهيكلية، المتمثلة في ضعف الإنتاج الحقيقي، وعدم القدرة على توفير فرص عمل، واجه السودان أزمة مالية، أبرز مظاهرها شح السيولة النقدية، التي ترتبط بأزمة الاقتصاد أساسا، وتراجع القطاعات الإنتاجية وضعف الاستثمارات، بالإضافة إلى تواضع مساهمة ما يزيد عن 5 ملايين مغترب في ضخ سيولة مالية، يقدرها البعض بـ5 مليارات دولار.
ومع تراكم الديون الخارجية التي قدرت خلال إبريل/ نيسان 2018 بـ54 مليار دولار (166% من الناتج المحلي)، زادت الأزمة الاقتصادية بشكل أعمق، خاصة مع تراكم فوائد الديون مستحقة السداد، ولم تنجح مفاوضات السودان مع الدائنين خلال النصف الأول من 2018 في إيجاد طرق لتخفيف الأزمة، بجانب الفساد المستشري نتاج فترة حكم طويلة سادها الاستبداد والقمع، فغابت الشفافية والمحاسبة، وهي الحالة الفضلى لبروز الفساد، وما يشكله من أداة لنهب الموارد من أراض وأموال.
خريطة الاحتجاجات
تحمل مناطق الاحتجاجات مؤشرات جغرافية للغضب، وتعبر عن سمات اقتصادية لطبقات شعبية مأزومة، أغلبها من أطراف المدن، من فقرائها تحديدا، الذين يعيشون في ظروف عمل تتسم بالهشاشة، وضعف الدخل، أو البطالة.
بجانب كتل من الفاعلين في المراكز السياسية، أتت انتفاضة السودانيين أخيرا من الأطراف، لتدل على عمق الأزمة وأساسها الاقتصادي، فمن عطبرة وشمال كردفان الرهد إلى أرض الجزيرة النيل الأبيض وصولا إلى أطراف العاصمة الخرطوم، القضارف وبورت سودان، لتصل الاحتجاجات إلى سبع مناطق تفيض بالفقراء المحتجين على بؤس المعيشة والاستبداد، يهتفون "مساواة حرية عدالة" والثورة خيار الشعب، كما هتفوا من قبل في انتفاضة 2013.
أشكال القهر
أتت الانتفاضة نتاج تراكمات من أشكال القهر المتنوع. اجتماعيا، يتمثل في ما نرى من ضيق في سبل العيش، بداية من توفير الخبز وليس انتهاء بخدمات الصحة والنقل والتعليم.
فالمشاركون بالانتفاضة يشعرون بالغبن من ارتفاع الأسعار، ومنهم من يشعر بالعجز عن توفير الحد الضروري من السلع التي توقف الإحساس المهين بالجوع، والبطالة.
وسياسيا، هناك شعور بالمهانة في ظل استئجار الجيش في حرب بالوكالة في اليمن تحت مظلة التحالف العربي، وهناك انتهاكات ومناطق حروب داخليا وتمزق. وثقافيا، هناك شعورا بالتمييز بين السودانيين، بعدما تم تقسيم الشعب مرتين، مرة إلى جنوب وشمال، ومرة إلى عرب وغير عرب، وهناك قهر اجتماعي وثقافي وأمني يضرب بعض مناطق الأطراف، بوصفها متمردة، ولم يبذل النظام جهدا في فهم لماذا تتمرد، ولماذا تفشل الوساطات الدولية لحل مشكلاتها.
شعور بالغبن في مناطق جبال كردفان، ودارفور، وغيرها من المناطق، ساهم في اندلاع الانتفاضة. أضف إلى ذلك، ثارت ملايين من الأسر التي هجر أبناؤها نتاج سياسات النظام.
شعب السودان الذي قدم أضخم تضحيات لشعب عربي، ربما لا يكمل انتفاضته أو يحسمها، ولكنه في الحقيقة لن يهزم ولا يمل من المقاومة لتغيير أوضاعه، كغيره من شعوب أخرى.
فلا سبيل للناس للعيش في ظل قسوة كل هذه الظروف دون أن يصرخوا، ويحتجوا، ويحلموا بعالم مغاير، أساسه خيارات اقتصادية جديدة، وتوفير سبل الحياة.