وكان تأجيل غريفيث مغادرته لصنعاء، من أول أمس الاثنين إلى أمس الثلاثاء، قد عزز الانطباع باستمرار الفرصة أمام الجهود الدبلوماسية لترتيبات سياسية في الحديدة، من شأنها أن تجنّب المدينة التي تمثّل شرياناً لمعظم مناطق شمال وغرب البلاد، معركة طاحنة قد توقف تدفق المواد الإغاثية والوقود وتتسبب بكارثة إنسانية كبيرة. لكنّ إعراب غريفيث نفسه خلال اجتماع لمجلس الأمن الدولي، مساء الإثنين، عن أمله في أن تستأنف مفاوضات السلام بين أطراف النزاع في يوليو/ تموز المقبل، أوحى بتمديد المهلة أمام التحالف لاستمرار هجومه، وفتح المجال أمامه حتى يوليو لحسم المعركة.
من جهته، قال دبلوماسي ثان للوكالة، طالباً بدوره عدم نشر اسمه، إنّ المفاوضات ستعقد "في إطار احترام سيادة واستقلال" اليمن، مع "التزام الأطراف بالحفاظ على علاقات ودية" ورفضهم أن "يتم استخدام الأراضي اليمنية لشنّ هجمات". وأضاف أنه سيتم إشراك "المجتمع المدني" في هذه المفاوضات، وستكون هناك حصة "لا تقل عن 30 في المائة للنساء"، سواء في المفاوضات أو في الحكومة المفترض أن تنبثق عنها لاحقاً. وأوضح الدبلوماسي أن المفاوضات سترمي إلى "إرساء عملية انتقال سياسي ترتكز إلى سيادة اليمن"، كما سيتم الاتفاق على "ترتيبات أمنية" و"مراجعة دستورية" وتحديد مسار انتخابي وإجراء "مصالحة وطنية"، لافتاً إلى أنه "سيتم أيضاً تشكيل مجلس عسكري وطني" ستكون أولى مهامه الإشراف على "إعادة انتشار المجموعات المسلحة". وبحسب المصدر نفسه، فإنّ غريفيث يعتبر أنّ هناك حالياً "فرصاً" لانتزاع تنازلات من أطراف النزاع، مع إقراره في الوقت نفسه بأنّ المعارك الدائرة في مدينة الحديدة تصعّب هذه المهمة.
وكانت مصادر قريبة من مكتب الأمم المتحدة قد كشفت لـ"العربي الجديد"، أنّ غريفيث أجّل مغادرته صنعاء لإتاحة الفرصة للحوثيين لدراسة المقترحات التي تقدّم بها، وتنص على تسليم ميناء الحديدة إلى لجنة من الأمم المتحدة، إذ لا تزال الجماعة تتردد في تقديم الإجابة الحاسمة، مع استمرار سير المعارك الميدانية، التي قد تؤثر هي الأخرى في مسألة قبول الحوثيين أو رفضهم لذلك.
وفيما لم تعلن الأمم المتحدة رسمياً، عن تفاصيل مقترحاتها حول الحديدة حتى اليوم، تشير معظم التسريبات والتصريحات الصادرة عن مسؤولين في التحالف والحكومة اليمنية، إلى أنّ المبعوث الأممي يطالب الحوثيين بالانسحاب من مدينة الحديدة سلمياً لتجنيبها المعركة العسكرية، وفق خطة تشرف عليها الأمم المتحدة، تؤمن انسحاب مسلحي الجماعة وتجنّب المدينة سيناريو الفوضى. في المقابل، يضع الحوثيون اشتراطات من شأنها أن تحوّل خسارة الحديدة إلى مكسبٍ، أو تخفّف تأثيرات الخسارة المحتملة على الأقل، من خلال المطالبة بضمانات تتعلّق بإدارة الميناء وتوقف العمليات العسكرية للتحالف، بما يسمح بطريقة أو بأخرى بالبقاء في مناطق سيطرتها الأخرى، بما في ذلك عدم التقدّم نحو العاصمة صنعاء.
وبالنظر إلى معطيات المعركة، سياسياً وعسكرياً، تعدّ مسألة انسحاب الحوثيين من الحديدة، إذ ما تمت، مكسباً من حيث المبدأ بالنسبة للتحالف على وجه خاص، الذي يضع في مقدمة أهدافه إغلاق البحر الأحمر أمام "أنصار الله"، وإنهاء سيطرة الحوثيين على المناطق الساحلية، التي تتُهم إيران بتهريب الأسلحة عبرها إلى الجماعة لتهديد أمن السعودية، وفقاً للاتهامات المتكررة على لسان مسؤولي التحالف. وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ الانسحاب الآمن للحوثيين، بما لا يدمر المدينة على غرار ما حصل في محافظات أخرى، كعدن وتعز، يمثّل مكسباً بحد ذاته للشرعية ويراعي المخاوف من حصول كارثة إنسانية، إذا ما استمرت المعارك.
في المقابل، تكاد الخيارات العسكرية للحوثيين في الحديدة تكون محصورة في إمكانية الدفاع المستميت عن المدينة، بما يجعل المعركة مكلفة لقوات الشرعية والتحالف، ولكنها بحسب التطورات وبمعطيات المنطق وتوازن القوى العسكرية (دعم جوي وبري مفتوح بالنسبة لقوات الشرعية)، تميل إلى الحسم بانتزاع السيطرة على المدينة من الجماعة على الأرجح. وبالتالي، فإنّ الخيار السياسي بالنسبة للحوثيين والتعامل بمرونة مع المقترحات الدولية التي يحملها غريفيث إلى صنعاء، قد يجد قبولاً لدى الجماعة، على الأقل، بما يحقّق لها بعض الشروط ويحافظ على قواتها التي عززت بها جبهة الحديدة من مختلف المحافظات الخاضعة لسيطرتها، في وقتٍ استهلكت فيه الحرب جزءاً كبيراً من قوة الحوثيين.
ومن شأن الحديث عن الشروط الحوثية المطروحة للقبول بمبادرة الأمم المتحدة في الحديدة، والتي تتمثّل بالمطالبة بوقف العمليات الجوية للتحالف ضد الجماعة وضمانات أخرى، أن تجعل الانسحاب سلمياً من الحديدة، في وقت تعزّز جماعة "أنصار الله" سيطرتها في بقية مناطق البلاد، وفي المقدمة منها العاصمة صنعاء، وهو ما قد يمثّل فرصة للجماعة، بالنظر إلى أن مناطق سيطرتها في كل الأحوال، تعيش حرباً مستمرة منذ أكثر من ثلاث سنوات، تتكبد معها الجماعة خسائر فادحة. يضاف إلى ذلك أنّ صنعاء، المدينة الأهم بالنسبة لليمنيين، لا تزال في قبضة الجماعة، التي كان نفوذها محصوراً قبل سنوات في محافظة صعدة، معقل الجماعة، شمالي البلاد.
ووفقاً لهذه المعطيات، فإنّ الحوثيين إذا ما حصلوا على ضمانات تعزّز سيطرتهم في باقي مناطق البلاد الجبلية ومركزها صنعاء ومحيطها، أو تضمن عدم مواصلة التصعيد العسكري ضدهم، وإن بشكل ضمني غير معلن، يمكن أن يقبلوا بالانسحاب من الحديدة. مع ذلك، فإنّ حالة انعدام الثقة، التي تسود بين أطراف متحاربة بطبيعة الحال، يمكن أن تحول دون القبول بأي وعود وضمانات سياسية، إذ من الصعب أن يثق الحوثيون بأن الانسحاب من الحديدة سيمنع عنهم تواصل العمليات العسكرية ومواصلة التقدم نحو صنعاء، وهو ما يفسّر التردد بالقبول بالمقترحات الأممية، إذا صحّت التسريبات حول مضمونها. كما أنه بالنسبة للسعودية، تمثّل مسألة الحدود أولوية، على الرغم من الضمانات التي تحصل عليها بانتزاع السيطرة على الساحل الغربي من أيدي الحوثيين، إذ إنّ بقاء الجماعة قوة عسكرية تسيطر على محافظات حدودية، أبرزها صعدة، قد يعني استمرار التهديد بالنسبة للرياض، التي صرح فيها ولي العهد محمد بن سلمان، أواخر العام الماضي، بأن بلاده لن تقبل بـ"حزب الله" آخر على حدودها مع اليمن.
إلى ذلك، فإنه إذا ما كان خيار الانسحاب الآمن للحوثيين من الحديدة، يمكن أن يحقّق بعض المصالح للتحالف باستكمال السيطرة على المناطق الاستراتيجية اليمنية على الساحل الغربي، إلا أنّه في المقابل، قد يمثّل خياراً مريباً بالنسبة لأطراف يمنية أخرى مناوئة للحوثيين وخصوصاً وسط البلاد وشمالها. فمنح الجماعة ضمانات وإن غير معلنة، تسمح باستمرار سيطرتها على صنعاء يعدّ أمراً ليس مطمئناً بالنسبة للعديد من اليمنيين، وهو ما عبّر عنه أخيراً مستشار الرئيس اليمني، ووزير الخارجية السابق، عبد الملك المخلافي، في تصريحات عكست الهاجس الذي يشغل عدداً غير قليل من أبناء اليمن، إذ قال إن الحوثي "سيسعى إذا اضطر، إلى الاحتفاظ بالمناطق الجبلية والتي يعتبرها حاضنة مذهبياً حسب منظومة التفكير الإمامية، وهو ما لم يخفهِ عبد الملك الحوثي في أحد خطبه"، في إشارة إلى كلمة متلفزة لزعيم الجماعة منذ أسابيع. وأضاف المخلافي أنه "يجب الحذر من أي خطط تؤدي إلى ذلك، وأن تكون رسالة الشعب اليمني وقواه والحكومة واضحة بأنّ صنعاء عاصمة اليمن ولا بديل عن تحريرها".
الجدير بالذكر أنّ سعي الحوثيين للاحتفاظ بصنعاء مع خسارة الحديدة، أمر وارد، ليس فقط في حال الانسحاب باتفاق سياسي، وإنما أيضاً كإحدى النتائج المحتملة لمعركة الحديدة، إذ تعزّز الجماعة قبضتها في العاصمة التي تعتبرها جزءاً من مناطق النفوذ التقليدي لـ"الزيدية" وللإماميين الذين حكموا أجزاء من شمال اليمن فترات متقطعة انتهت بثورة الـ26 من سبتمبر/ أيلول 1962. وخلال الأعوام الأخيرة، اتخذت الحكومة العديد من القرارات، بنقل مقار حكومية إلى عدن التي تصفها بـ"العاصمة المؤقتة"، أبرزها البنك المركزي اليمني، على نحو قد يعد مؤشراً على أنّ الحكومة لا تعطي أولوية لمسألة استعادة السيطرة في صنعاء، كما هو الحال في الحديدة، حتى اليوم على الأقل. وفي حين يشدّد المسؤولون الحكوميون على أن معركة الحديدة بوابة للخطوة الأهم في صنعاء، تبقى نتائج المرحلة المقبلة، التي فرضتها الحديدة، الاختبار الحاسم كأكبر تحوّل في الأشهر الأخيرة.